بسم الله الرحمن الرحيم

 

الفتوى السيستانية لمكافحة الغلو

 

نبيل الكرخي

 

في الثامن من شهر صفر الماضي صدرت الفتوى المباركة عن سماحة السيد السيستاني (دام ظله الوارف) وتتضمن التحذير من الغلو في بعض ابعاده، وهي ليست المرة الاولى التي يحذر فيها سماحة السيد (دامت بركاته) من الغلو بل سبقت الفتوى عدّة نصوص ايضاً ضمن نفس المضمون.

والفتوى جاءت جواباً لسؤال يقول: {هل القول بأن الإمام عليّ (عليه السَّلام) أو الإمام الحسين (عليه السَّلام) هو خالق الأكوان أو جاعل السماوات او انه يحيي الخلق ويميتهم من الغلو المنهيّ عنه في الروايات الشريفة الثابتة؟ ودمتم ذخرًا للإسلام والمسلمين}.

فكان الجواب:

[بسمه تعالى.

نعم هو من الغلو الذي تبرّأ منه أئمّة أهل البيت (عليهم السَّلام)، وليس منه إسناد الخلق أو الإحياء إليهم في بعض الموارد الخاصّة بإذن الله تعالى، نظير ما ورد في القرآن الكريم بالنسبة إلى بعض الأنبياء (على نبيِّنا وآله وعليهم السَّلام).

مكتب سماحة السيّد السيستانيّ «دام ظلّه» - أجوبة المسائل الشرعيّة.

٨ صفر ١٤٤٥ هـ].

فتضمنت الفتوى محورين مهمين:

الاول: تفنيد كلام المغالين الذين يقولون انَّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) هو خالق السماوات والأرض أو انه هو الذي يحيي ويميت، وأرجعت هذا التفنيد الى الأئمة الأطهار (عليهم السلام) فهم اول من تصدى الى أفكار الغلو والمغالين.

الثاني: أفهمت أنَّ بعض الروايات التي ورد فيها الإحياء الى بعض الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بأنها من قبيل "إسناد الفعل اليهم"، ومعنى ذلك هو إسناد الفعل الظاهري اليهم بالتوافق مع الفعل الإلهي. أي أنَّ الأمر كلّه بيد الله تبارك وتعالى. وهذا هو ديدن علمائنا الماضين أيضاً وعقيدتهم بخصوص معجزات الأنبياء (عليهم السلام) كما في شق البحر لموسى (عليه السلام) فالذي شق البحر حقيقة هو الله تبارك وتعالى فالأمر أمره، ولكنه جاء موافقاً لفعل موسى الظاهري بضرب البحر بعصاه، وكما في خلق الطير من الطين لعيسى (عليه السلام). وكما في رمي التراب في اعين المشركين من قبل نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله) والذي اشار اليه قوله تعالى: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى))[1]، وكذلك معجزة شق القمر من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهكذا عامة المعجزات. ولا يخفى انَّ هناك معجزات تكون من قبل الله سبحانه ابتداءً دون أن يكون هناك دور لدعاء الأنبياء (عليهم السلام) في إحداثها حتى على المستوى الظاهري كما في تكلم عيسى (عليه السلام) في المهد أو تحول عصا موسى (عليه السلام) الى ثعبان في جبل الطور أو في إنزال القرآن الكريم، وغيرها من المعجزات. وهناك معجزات سخّر فيها الله سبحانه بعض الكائنات في طاعة الأنبياء (عليهم السلام) كما في قوله تعالى: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ))[2]، فالله تبارك وتعالى هو الذي أمر الجبال والطير والحديد لتكون في خدمة داود (عليه السلام). بل انَّ هناك معجزات حدثت بدون وجود نبي مرسل كما في معجزة إرسال الطير الأبابيل على جيش إبرهة الحبشي. فالمعجزات قاطبة هي بأذن الله تبارك وتعالى أي بأمره عزَّ وجلَّ لا شريك له.

لاحظوا استعمال الفتوى عبارة (وليس منه إسناد) للإشارة الى انَّ ما يقوم به المعصومون (عليهم السلام) من معجزات هو مُسند إليهم ظاهرياً وليس حقيقياً، فهي نفت عنهم الإحياء الحقيقي في العبارة السابقة لهذه العبارة.

وأشارت الفتوى في مسألة الخلق أو الإحياء الى "بعض الأنبياء (عليهم السلام)" وواضح انَّ المقصود هو المسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام) كما في قوله تعالى: ((وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ))[3]. وهذا الإحياء لا يخرج عن الإطار الذي ذكرناه آنفاً من حيث إسناد الفعل الإلهي الى بعض المعصومين (عليهم السلام) مجازاً، وان الفعل الظاهري للنبي يتوافق مع الأمر الإلهي بالإحياء، وانَّ الأمر كله بيد الله سبحانه وتعالى.

وعقيدة الشيعة الإمامية التي سطرها علماؤنا الأبرار (رضوان الله عليهم) في القرون الماضية تنص بوضوح على انَّ معجزات الأنبياء (عليهم السلام) تتم عن طريق الدعاء أو تكون ابتداءً من قِبَلِ الله سبحانه كما في تحول النار برداً على ابراهيم الخليل (عليه السلام) وتكلم المسيح (عليه السلام) في المهد. وكذلك كانت معجزات آل البيت الأطهار (عليهم السلام) عن طريق الدعاء، وعندهم الأسم الأعظم الذي إذا دُعيَ به اُجيب.

وفي الكافي رواية واضحة انَّ المسيح (عليه السلام) كان يحيي الموتى من خلال الدعاء، حيث روى الشيخ الكليني (رضوان الله عليه) في الكافي بسنده عن ابان بن تغلب وغيره عن الامام الصادق (عليه السلام) انه سُئِلَ هل كان عيسى بن مريم أحيا أحداً بعد موته حتى كان له رزق ومدة وولد؟ فقال (عليه السلام): (نعم إنه كان له صديق مواخ له في الله تعالى وكان عيسى عليه السلام يمر به وينزل عليه وإن عيسى غاب عنه حيناً ثم مر به ليسلم عليه فخرجت إليه أمه فسألها عنه فقال له: مات يا رسول الله، فقال: اتحبين ان تراه، قالت: نعم، فقال لها: فإذا كان غداً أتيتك حتى احييه لك بإذن الله تعالى، فلما كان من الغد اتاها فقال لها: انطلقي معي إلى قبره فانطلقا حتى أتيا قبره فوقف عليه عيسى عليه السلام ثم دعا الله تعالى فانفرج القبر وخرج ابنها حياً فلما رأته امه ورآها بكيا فرحمهما عيسى عليه السلام فقال له عيسى: أتحب أن تبقى مع امك في الدنيا، فقال: يا نبي الله بأكل ورزق ومدة أم بغير أكل ولا رزق ولا مدة، فقال له عيسى عليه السلام: بأكل ورزق ومدة وتعمر عشرين سنة وتزوج ويولد لك، قال: نعم، فدفعه عيسى عليه السلام إلى امه فعاش عشرين سنة وتزوج وولد له)[4].

وهذه الرواية واضحة في ان المسيح (عليه السلام) كان يدعو الله سبحانه فيخلق، ففعل الخلق هو بأمر الله ومشيئته لا يملك المسيح (عليه السلام) منه شيئاً سوى مقام الدعاء المستجاب.

  

من اقوال العلماء في مقام الدعاء المستجاب لآل البيت الأطهار (عليهم السلام)

وفيما يلي استعراض لبعض اقوال العلماء حول المعجزة وانها انما تحدث بدعاء النبي أو الوصي، وليس بتفويضهما:

* قال الشيخ المفيد: (والمفوضة صنف من الغلاة، وقولهم الذي فارقوا به من سواهم من الغلاة اعترافهم بحدوث الأئمة وخلقهم ونفي القدم عنهم وإضافة الخلق والرزق مع ذلك إليهم، ودعواهم أن الله سبحانه وتعالى تفرد بخلقهم خاصة، وأنه فوض إليهم خلق العالم بما فيه وجميع الأفعال)[5].

فقوله: (ودعواهم أن الله سبحانه وتعالى تفرد بخلقهم خاصة وأنه فوض إليهم خلق العالم) هي مطابقة لقول الفلاسفة (الواحد لا يصدر منه الا واحد) أو ما تعرف بنظرية الصادر الأول! فهؤلاء المفوضة زعموا انَّ الله تبارك وتعالى خلق آل البيت الأطهار (عليهم السلام) فقط وهم الذين خلقوا العالم! وقولهم (أنه فوض إليهم خلق العالم بما فيه وجميع الأفعال) يعني أنَّ جميع المعجزات إنما صدرت عن آل البيت (صلوات الله عليهم) ولم تصدر عن الله تبارك وتعالى!!

* قال الشيخ قطب الدين الراوندي[6](توفي 573هـ): (وإن المعجزة تظهر عند دعاء الرسول أو الوصي ابتداءا من غير تكلف آلة وأداة منه أكثر من دعائه لله تعالى أن يفعل ذلك)[7].

وقال ايضاً: (والمعجزة لا تتعلق بزمان مخصوص، ولا ببقعة مخصوصة، ولا يستعين فيها صاحبها بآلة ولا أداة، وإنما يظهرها الله على يده عند دعائه ودعواه، وهو لم يتكلف في ذلك سببا، ولا استعان فيها بعلاقة ولا معالجة، ولا أداة ولا آلة. وأنها على الوجه الناقض للعادات، والباهر للعقول، القاهر للنفوس، حتى تذعن لها الرقاب والأعناق، وتخضع لها النفوس، وتسمو إليها القلوب ممن أراد أن يعلم صدق من أظهرها عليه)[8].

* وقال الشيخ زين الدين علي بن يونس العاملي النباطي البياضي (متوفى 877هـ): (أن المعجزة غايتها الدعاء إلى الله سبحانه وتزداد ظهورا مع الأزمان)[9].

* وقال الشيخ محمد باقر المجلسي (توفي 1111هـ): (ثم نقول في الفصل بين المعجزة والشعوذة ونحوها: فرق قوم من المسلمين بين المعجزات والمخاريق، بأن قالوا المعجزة يظهرها الله لرسول أو وصي رسول عند الأفاضل من أهل عصره والأماثل منهم، فيتعذر عليهم فعلها عند التأمل لها والنظر فيها على كل حال، والشعوذة يظهرها صاحبها عند الضعفة من العوام والعجايز، فإذا بحث عن أسبابها المبرزون وجدوها مخرقة، والمعجزة على مر الأيام لا تزداد إلا عن ظهور صحه لها ولا تنكشف إلا عن حقيقة فيها. وإن الشعوذة ربما تعلم من يظهر عليه مخرجها وطريقها وكيف يتأتى ويظهر مما يهتدي صاحبها إلى أسبابها، ويعل أن من شاركه فيها أتى بمثل ما يأتي هو به، وإن المعجزة يجري أمرها مجرى ما ظهر في عصا موسى عليه السلام من انقلابها حية تسعى حتى انقادت إليه السحرة، وخاف موسى أن تلتبس بالشعوذة على كثير من الحاضرين. وإن المعجزة تظهر عند دعاء الرسول أو الوصي ابتداء من غير تكلف آلة وأداة منه والشعوذة مخرقة وخفة يد تظهر على أيدي بعض المحتالين بأسباب مقدرة لها وحيل متعلمة أو موضوعة فيمكن المساواة فيها ولا يتهيأ ذلك إلا لمن عرف مباديها، ولابد من آلات يستعين بها في إتمام ذلك ويتوصل بها إليه)[10].

* وقال مير سيد علي الحائري الطهراني (متوفى 1340هـ): (لأنّ المعجزة شهادة من اللَّه له بالنبوّة)[11].

* وكان السيد محمد باقر الدرجئي وهو استاذ السيد البروجردي (رضوان الله عليه) يذهب الى ان الولاية التكوينية لا دليل عليها[12].

* وقال الشيخ محمد جواد مغنية (توفي 1400هـ) حول قوله تعالى: ((وما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه)): (المعجزة بيد اللَّه لا بيد رسوله)[13].

* وقال الشيخ محمد آصف محسني حول مصدر المعجزة: (كونها من قبل الله تعالى أو بأمره ذكره العلامة وجماعة من العامة لكنه عندي لغو، بعد اعتبار عدم إمكان معارضتها لأحد كما ستعرفه، فالمعجزة حينئذٍ لا تكون إلا من قبل الله، فافهم)[14].

* وقال السيد كاظم الحائري: (فقد يكون المراد بالولاية التكوينية أنّ اللّه عز وجل فوض العالم وما يجري فيه الى الإمام عليه السلام، فالإمام هو الذي يُسيّر الأحداث، فإن كان هذا هو مقصود القائل بالولاية التكوينية، فعندئذٍ نقول: إنّ هذا ينقسم الى قسمين أو يحتمل فيه احتمالان، أمّا أن يفترض أصحاب هذا الرأي أنّ الإمام يسيّر الأحداث وفق عللها الغائبة عنّا والتي عرّفها له اللّه تبارك وتعالى، فالإمام وفق العلل يسيّر الأحداث، وأمّا أن يفترض - ما يشبه مقولة المفوّضة - أنّ اللّه تبارك وتعالى كأنّما فوض الاُمور إليهم، وبدلاً عن إرادة اللّه «إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون» تحلّ إرادة الأئمة عليهم السلام ويقع ما يريدون فهم الذين يريدون الحياة لمن يحيى ويريدون الموت لمن يموت وهكذا، وبالإرادة مباشرة يفعل الإمام ما يريد. فإن فُرض الأوّل وهو أنّ اللّه تبارك وتعالى أرشد الأئمة عليهم السلام الى علل الحوادث والأحداث فيتصرفون في العالم وفق تحريك العلل، فهذا كلام فى الوقت الذي لم أجد دليلاً عليه لا في كتاب ولا في سنّة، لا يوجد دليل مخالف ومعارض له فى الكتاب والسنّة، ولا توجد لدينا ضرورة دينية تمنع عن القول بذلك[15].  أمّا لو قصدوا المعنى الثاني وهو أنّ اللّه فوض إليهم الاُمور، فكما أنّ اللّه تبارك وتعالى يفعل ما يريد وما يشاء وبإرادته يُسير العالم كذلك نفترض الإمام عليه السلام، وكأنّه يحلّ محلّ اللّه تبارك وتعالى، وبإذنه سبحانه ومشيئته، فهذا فى روحه يرجع الى التفويض، أو الى شق من شقوق التفويض، الذي ننكره كما ننكر الجبر ونقول، لا جبر ولا تفويض.  انّ التفويض له معنيان وشقان، فتارة يُفترض أنّ اللّه تعالى فوض العالم الى عباده وهو كأنّما ترك العالم، وعبادُه يفعلون ما يريدون، واُخرى يفترض: أنّ اللّه تبارك وتعالى فوض العالم الى قسم من عباده فقط وهم المعصومون عليهم السلام، وهذا التفويض بشقيه يخالف ظاهر الآيات المباركات التي تسند الاُمور - دائماً ومباشرة - الى اللّه تعالى كما في الآيات التي أشرنا إليها منها قوله تعالى: «ألا له الخلق والأمر» وقوله تعالى «إنّ اللّه هو الرزّاق» وقوله تعالى «اللّه يتوفى الأنفس حين موتها» وقوله تعالى «لن يصيبنا إلّا ما كتب اللّه لنا» وما شابه ذلك. كما أنّ هناك آيات اُخرى تقبل الحمل على نفس المعنى الذي ندّعيه من قبيل قوله تعالى بالنسبة للمسيح عليه السلام: «وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيه فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني»، فالمقطع الأوّل، «وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني» هو من القسم الذي ذكرناه من أنّ فعل البشر ينسبه الى اللّه بالمعنى الذي شرحناه، فقد خلق من الطين كهيئة الطير - وكل إنسان يستطيع أن يخلق الطين كهيئة الطير - وهو فعل البشر ومع ذلك فإنّ اللّه تعالى يقول: «بإذني» وكل ما قام به عيسى عليه السلام هو بإذن اللّه، من إبراء الأكمه والأبرص وإخراج الموتى وغير ذلك، كما أنّ الآية الاُخرى تتحدث عن لسان عيسى عليه السلام: «أني اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن اللّه واُبري الأكمه والأبرص واُحيي الموتى بإذن اللّه واُنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم». إن كلمة بإذني أو كلمة بإذن اللّه فى هذه الآيات المباركات هي على منوال الآيه الاُخرى التي تقول: «وما كان لنفس أن تموت إلّا بإذن اللّه»، الذي يعني أنّ الموت من قبل اللّه تعالى، فهو الذي يميت النفس، وهو الذي يميت الإنسان، «وما كان لنفس أن تموت إلّا بإذن اللّه»، وكذلك في الآيات الماضية حينما يقول «اُبرى‏ء الأكمه والأبرص» و«اُحيي الموتى بإذن اللّه» أي أنّ اللّه تعالى يُبري‏ء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، وما على عيسى عليه السلام إلّا أن يطلب من اللّه تبارك وتعالى أن يُيري‏ء ويحيي، وعندها يُيري‏ء ويحيي سبحانه وتعالى.

روايات إثبات الولاية التكوينية للأئمة (عليهم السلام): أمّا الروايات التي قد يتسمك بها لإثبات الولاية التكوينية للأئمة عليهم السلام فهي من قبيل ما ورد فى زيارة الجامعة الكبيرة كقوله عليه السلام: «بكم فتح اللّه وبكم يختم وبكم ينزل الغيث وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه وبكم ينفّس ألهم...»، قد يفترض أنّ هذا يعني الولاية التكوينية، أي أنّ الأئمة هم الذين يديرون الأرض والسماء والغيث وما شابه، وكذلك الرواية المعروفة أو الحديث القدسي المعروف على الألسن، «لولاك لما خلقت الأفلاك»، ومنها الروايات الواردة بعنوان «لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها»، فيقال إنّ حياة العالم مرتبطة بحياة الإمام والحجّة المعصوم، ولولاه لفنى وانتهى العالم، ومنها ما روي عن أبي حمزة «قال: قلت لأبي عبد اللّه الصادق عليه السلام، تبقى الأرض بغير امام؟ قال عليه السلام لو بقيت الأرض بغير امام لساخت» ورواية اُخرى، وهي التوقيع الشريف المعروف عن الإمام صاحب الزمان الذي أجاب فيه على عدة اسئلة من جملتها قوله عليه السلام: «وأمّا وجه الانتفاع في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيبتها عن الأبصار السحاب، وإني لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء»، وعن الإمام الباقر عليه السلام  يقول: «لو بقيت الأرض يوما بلا ا مام منّا لساخت بأهلها، ولعذبهم اللّه بأشد عذابه، وذلك أنّ اللّه تبارك وتعالى جعلنا حجة في أرضه، وأماناً في الأرض لأهل الأرض، لن يزالوا في أمان من أن تسيخ بهم الأرض ما دمنا بين أظهرهم، فإذا أراد اللّه أن يهلكهم ولا يمهلهم ولا ينظرهم ذهب بنا من بينهم ورفعنا اللّه، ثم يفعل اللّه ما يشاء {شاء} وأحبَّ»، وأمثال هذه الروايات كثيرة وهي شبه متواترة كلها تدل على هذا المضمون، وعلى أنّ قوام العالم بالإمام المعصوم وبدونه ينتهي العالم. فمجموع هذه الروايات لا شكّ تعطي معنى مسلماً عند أتباع مدرسة أهل البيت عليه السلام، وهو أن قيام العالم ووجود العالم وسبب الحياة فى العالم كله مرتبط  بالإمام المعصوم، ولولاه لما كان شي‏ء من هذا القبيل، إلّا أنّ هذا لا يعني ما يسمى بالولاية التكوينية، فافتراض أنّهم سلام اللّه عليهم هم الذين يباشرون العمل الذي يفترض مباشرته من قبل اللّه تبارك وتعالى شي‏ء، وافتراض أنّ اللّه تعالى هو الذي يديم العالم ويدير الاُمور ببركتهم سلام اللّه عليهم شي‏ء آخر، وهذه الروايات انّما دلت على المفهوم الثاني ولم تدل على المفهوم الأوّل، فالاستدلال بها على مبدأ الولاية التكوينية بالمعنى الأوّل خلط بين المفهومين)[16].

اذن لا ولاية تكوينية ولا تفويض للانبياء والاوصياء (عليهم السلام) لا في ادارة الكون ولا في التصرف التكويني ولا في المعجزات. انما هو تصرف بالتكوين بما سخره الله سبحانه لهم من كائنات، وكذلك بما استجيب لهم من دعاء، كما دلّ على ذلك الدليل.

* وقال الشيخ ماجد الكاظمي: (وحتى جريان المعجزة على يد الانبياء والائمة (عليهم السلام) لم يكن بالاستقلال ولا بالتفويض والذي ذهب اليه علماؤنا ونطقت به الاخبار انما هو من باب استجابة الدعاء يقول الشيخ المفيد (رحمه الله) في الرد على المفوضة بعد قوله اولاً (والغلاة من المتظاهرين بالاسلام هم الذين نسبوا امير المؤمنين والائمة من ذريته (عليهم السلام) الى الالوهية والنبوة ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا الى ما تجاوزوا فيه الحد وخرجوا عن القصد وهم ضلال كفار حكم فيهم امير المؤمنين (عليه السلام) بالقتل والتحريق بالنار وقضت الائمة (عليهم السلام) عليهم بالاكفار والخروج عن الاسلام): والمفوضة صنف من الغلاة وقولهم الذي فارقوا به من سواهم من الغلاة اعترافهم بحدوث الائمة وخلقهم ونفي القدم عنهم واضافة الخلق والرزق مع ذلك اليهم ودعواهم ان الله سبحانه وتعالى تفرد بخلقهم خاصة وانه فوّض اليهم خلق العالم بما فيه وجميع الافعال)[17].

 

 

فائدة: جلب عرش بلقيس أيضاً من خلال الدعاء

وبخصوص جلب عرش بلقيس كما في قوله تعالى: ((قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ))، نقرأ في التفاسير التالية ما يبيّن انَّه كان أيضاً من خلال الدعاء:

* قال السيد الطباطبائي في تفسير الميزان: (ولم يرد في لفظ الآية نبأ من هذا الاسم الذي ذكروه بل الذي تتضمنه الآية أنه كان عنده علم من الكتاب، وأنه قال: أنا آتيك به، ومن المعلوم مع ذلك أن الفعل فعل الله حقيقة، وبذلك كله يتحصل أنه كان له من العلم بالله والارتباط به ما إذا سأل ربه شيئاً بالتوجه إليه لم يتخلف عن الاستجابة) [18]. وكلام السيد هذا ينفي الولاية التكوينية للذي أتى بعرش الملكة لأن الإتيان كان فعل الله حقيقة[19].

* في تفسير القمي: (فقال آصف بن برخيا (أنا آتيك به قبل ان يرتد إليك طرفك) فدعا الله باسمه الأعظم)[20]. فالدعاء هو وسيلة الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) لحدوث المعجزات.

* في تفسير التبيان للشيخ الطوسي قال: (و‌قيل‌: شقت‌ عنه‌ ‌الإرض‌ فظهر. و‌قيل‌ يجوز ‌أن‌ ‌يکون‌ اللّه‌ أعدمه‌ ‌ثم‌ أوجده‌ ‌في‌ الثاني‌ بلا فصل‌ بدعاء ‌ألذي‌ عنده‌ علم‌ ‌من‌ الكتاب‌، و‌کان‌ مستجاب‌ الدعوة ‌إذا‌ دعا باسم‌ اللّه‌ الأعظم‌. و‌يکون‌ ‌ذلك‌ معجزة ‌له)[21].

مما يؤكد ما ذكرناه آنفاً من أنَّ معجزات الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) كانت من خلال الدعاء. ولم تكن لديهم قوى ذاتية تجريها.

 

 شبهات بعض أهل الغلو:

هناك شبهتان يتمسك بهما بعض اهل الغلو من الذين يقولون بانَّه يمكن للمخلوق أن يخلق سواه! هما:

الشبهة الأولى: أنَّ الخلق يمكن ان يُنسب للمخلوق بإذن الله سبحانه! أي أنَّ الله تعالى يضع في المخلوق قوى خارقة تمكنه من خلق سواه فيكون الخلق بإذن الله تعالى عمّا يصفون!

الشبهة الثانية: قوله تعالى: ((فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ))[22] فتدل على وجود خالقين غير الله تعالى!

وسنجيب عن هاتين الشبهتين بالفقرتين التاليتين:

 

جواب الشبهة الأولى بقولهم بقدرة المعصوم (عليه السلام) على الخلق بإذن الله تعالى:

وملخص جواب وتفنيد هذه الشبهة: انَّ عبارة (بإذن الله) الواردة في القرآن الكريم ولاسيما في قصة خلق المسيح ظاهرياً للطير، في قوله تعالى: ((وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ))[23]. هو انَّ معنى (بإذن الله) أي بأمر الله عزَّ وجل. وليس بتفويض من الله تعالى عمّا يصفون.

ومورد الشبهة أنَّ البعض يفهم كلمة ((بِإِذْنِ اللَّهِ)) الواردة في الآية الكريمة فهماً بعيداً عن المطالب العقائدية لعلمائنا الأبرار في القرون العشرة الأولى[24]، كما يفهمونها بعيداً عما سطّره المفسرون في تفاسيرهم، فيقول اولئك أنَّ معنى (بإذن الله) اي بتفويض منه أن يفعل المعصوم (عليه السلام) ذلك! وهذا التفويض يعني أنَّ الله سبحانه قد وضع في المعصومين (عليهم السلام) قدرات خارقة خلاف القدرات البشرية تمكنهم من فعل ذلك! مع أنَّه لا يوجد دليل في القرآن الكريم أو الروايات المعتبرة أنَّ لديهم قدرات خارقة مضافة الى قدراتهم البشرية، بل الذي ورد خلاف ذلك حيث تؤكد آيات القرآن الكريم والروايات المعتبرة على بشريتهم التامة (صلوات الله عليهم).

أمّا بخصوص معنى عبارة (بإذن الله) الواردة في القرآن الكريم والتي يشتبه البعض بأنَّها تدل على تفويض إمكانية أن يخلق المخلوق مخلوقاً آخر، فنقرأ ما سطّره علماؤنا الأبرار بخصوصها:

قال الشيخ الطوسي في تفسيره التبيان: (والاذن في اللغة على ثلاثة اقسام: احداها: بمعنى العلم وذكرنا شاهده [قال في نص سابق: قوله: ((فاذنوا بحرب من الله)) معناه اعلموا، بلا خلاف]. والثاني: الاباحة والاطلاق كقوله ((فانكحوهن بإذن اهلهن))، وقوله: ((يا ايها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت ايمانكم)). والثالث: بمعنى الامر، كقوله: ((أنزله على قلبك بإذن الله)))[25].

وقال الشيخ الطوسي: (وقوله: ((وأحيي الموتى بإذن الله)) على وجه المجاز إضافة الى نفسه وحقيقته ادعوا الله بإحياء الموتى فيحييهم الله فيحيون بإذنه)[26].

وقال الشيخ الطوسي عن قوله تعالى: ((وما ارسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)) قال: (والاذن على وجوه: يكون بمعنى اللطف، كقوله: ((وما كان لنفس ان تؤمن إلا بإذن الله)). ومنها: الامر، مثل هذه الاية[27]. ومنها التخلية نحو ((وما هم بضارين به من احد إلا بإذن الله)))[28].

وعن قوله تعالى ((وما كان لنا أن ناتيكم بسلطان الا بإذن الله)) قال الشيخ الطوسي ان فيهما قولان (الثاني: ان ما اتيناكم به بإذن الله، لأنه مما لا يقدر عليه البشر، ونحن بشر)[29]. فيكون معناه بأمر الله وهو الذي لا يقدر عليه البشر.

 

جواب الشبهة الثانية التي تقول بوجود خالقين آخرين بنص القرآن كما في قوله تعالى: ((فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ))[30]:

وملخّص جواب هذه الشبهة هي ما ذكره الشيخ الطوسي في تفسيره التبيان بأنَّ: "الخلق في حقيقة اللغة هو التقدير والاتقان في الصنعة وفعل الشئ لا على وجه السهو والمجازفة" كما سنبينه في التفصيل الآتي:

فهذه الآية الكريمة يستند اليها بعض أهل الغلو في اسناد الخلق الفعلي الى غير الله تبارك وتعالى وهي قوله عزَّ وجلَّ: ((فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ))[31] وهي شبهة قديمة اجاب عنها الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وبيّنها علماؤنا الأبرار (رضوان الله عليهم)، كما في النصوص التالية:

روى الشيخ الصدوق في كتابه (التوحيد) بسنده، عن الإمام ابي الحسن الرضا (صلوات الله عليه) حديثاً طويلاً مفيداً ننصح بمراجعته لما فيه من فوائد جمّة، مما جاء فيه: (إن الله تبارك وتعالى يقول: (تبارك الله أحسن الخالقين) فقد أخبر أن في عباده خالقين منهم عيسى ابن مريم، خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله فنفخ فيه فصار طائرا بإذن الله، والسامري خلق لهم عجلا جسدا له خوار)[32].

قال الشيخ المفيد في اوائل المقالات ((ولا أتجاوز مواضعه من القرآن) يعني ذكر كلمة خالق على العباد فيما ذكر الله وهي عدة موارد في القرآن 1 - قوله (تعالى) حكاية عن عيسى (ع) إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طير بإذن الله {49 آل عمران} وقوله (تعالى) مخاطبا لعيسى (ع) وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني؟ {11 المائدة} وقوله (تعالى) فتبارك الله أحسن الخالقين {14 المؤمنون} وقوله أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين {125 الصافات} وهذه مواضع إطلاق لفظ خالق على غير الله (تعالى) لعناية خاصة اقتضت هذا المجاز)[33].

قال الشيخ الطوسي في التبيان: (الخلق في حقيقة اللغة هو التقدير والاتقان في الصنعة وفعل الشئ لا على وجه السهو والمجازفة بدلالة قوله "وتخلقون إفكا" وقوله "وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير" وقوله "أحسن الخالقين" كما لا يجوز أنه أعظم الآلهة لما لم يستحق الآلهية غيره، وقال زهير:

ولانت تفري ما خلقت وبعض * القوم يخلق ثم لا يفري

وقال الججاج: لا أعد إلا وفيت ولا أخلق إلا فريت

وقال الشاعر:

ولا يئط بأيدي الخالقين ولا * أيدي الخوالق الا جيد الادم

فعلمنا بذلك جواز تسمية غيره بأنه خالق إلا انا لا نطلق هذه الصفة إلا لله تعالى، لان ذلك توهم)[34].

وقال في موضع آخر: (وقوله " أحسن الخالقين " فيه دلالة على أن الانسان قد يخلق على الحقيقة، لأنه لو لم يوصف بخالق إلا الله، لما كان لقوله " أحسن الخالقين " معنى. وأصل الخلق التقدير، كما قال الشاعر : ولانت تفري ما خلقت وبعض * القوم يخلق ثم لا يفري)[35].

قال الشيخ الطبرسي في مجمع البيان: ((وأحيي الموتى بإذن الله) إنما أضاف الإحياء إلى نفسه، على وجه المجاز والتوسع، ولأن الله تعالى كان يحيي الموتى عند دعائه)[36].

وقال الشيخ الطبرسي في تفسيره: ((أحسن الخالقين) لأنه لا تفاوت في خلقه. وأصل الخلق التقدير، يقال : خلقت الأديم : إذا قسته لتقطع منه شيئا. وقال حذيفة في هذه الآية : (تصنعون ويصنع الله وهو خير الصانعين). وفي هذا دليل على أن اسم الخلق قد يطلق على فعل غير الله تعالى، إلا أن الحقيقة في الخلق لله سبحانه فقط. فإن المراد من الخلق إيجاد الشئ مقدرا تقديرا، لا تفاوت فيه. وهذا إنما يكون من الله سبحانه وتعالى، ودليله قوله (ألا له الخلق والأمر))[37].

وقال الشيخ الحويزي (متوفى 1112هـ) في تفسيره (نور الثقلين) حول قوله تعالى: ((أحسن الخالقين)): (و زعموا ان هيهنا خالقين غير الله عز وجل، ومعنى الخلق هيهنا التقدير مثل ذلك قول الله عز وجل لعيسى عليه السلام)[38]. يشير إلى قوله تعالى في الآية (110) من سورة المائدة: ((وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فننفخ فيها فتكون طيرا بإذني))).

وقال في تفسير الميزان: (ووصفه تعالى بأحسن الخالقين يدل على عدم اختصاص الخلق به وهو كذلك لما تقدم أن معناه التقدير وقياس الشئ من الشئ لا يختص به تعالى، وفي كلامه تعالى من الخلق المنسوب إلى غيره قوله: "وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير" {المائدة: 110} وقوله: "وتخلقون إفكا" {العنكبوت: 17})[39].

وقال شبّر في تفسيره: ((فتبارك الله أحسن الخالقين) المقدرين)[40].

وقال الشيخ ناصر مكارم الشيرزي في تفسيره (الأمثل): (وجدير بالذكر أن كلمة "الخالق" مشتقة من " الخلق " وتعني بالأصل التقدير، حيث تطلق هذه الكلمة عندما يراد تقطيع قطعة من الجلد فينبغي على الشخص أن يقيس أبعاد القطعة المطلوبة ثم يقطعها، فيستخدم لفظ "الخلق" بمعنى التقدير، لأهمية تقدير أبعاد الشئ، قبل قطعه. أما عبارة أحسن الخالقين فتثير هذا التساؤل : هل يوجد خالق غير الله؟! وضع بعض المفسرين تبريرات لهذه الآية في وقت لا حاجة فيه لهذه التبريرات، لأن كلمة "الخلق" بمعنى التقدير والصنع، ويصح ذلك بالنسبة لغير الله، إلا أن هناك اختلافا جوهريا بين الخلقين... يخلق الله المواد وصورها، بينما يصنع الإنسان أشياءه مما خلق الله، فهو يغير صورها. كمن يبني دارا حيث يستخدم موادا أولية كالجص والآجر، أو يصنع من الحديد سيارة أو ماكنة. ومن جهة أخرى لا حدود لخلق الله الله خالق كل شئ - سورة الرعد الآية (16) - في وقت نجد ما صنعه الإنسان محدودا جدا، وفي كثير من الأحيان يجد الإنسان فيما خلقه هو نقصا يجب سده فيما بعد، إلا أن الله يبدع الخلق دون أي نقص أو عيب. ثم إن قدرة الإنسان على صنع الأشياء جاءت بإذن من الله، حيث كل شئ في العالم يتحرك بإذن الله، حتى الورق على الشجر، كما نقرأ في سورة المائدة الآية (110) عن المسيح (عليه السلام) وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني)[41].

وقال في موضع آخر: (وعبارة أحسن الخالقين رغم أنها تشير إلى أن الله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون ولا يوجد خالق سواه، فهي تشير أيضا حسب الظاهر إلى الأشياء المصنوعة، أي التي يصنعها الإنسان بعد أن يغير شكل المواد الطبيعية، ومن هنا سمي بالخالق، رغم أنه تعبير مجازي)[42].

 

آيتان تبطلان كلام الغلاة

وبالإضافة الى ما سبق بيانه آنفاً مما يفند كلام الغلاة ويهشم مرتكزاتهم الفكرية السفسطائية، فإنَّ في القرآن الكريم آيات عدّة تبيّن تهافت فكرهم وعظمة التوحيد الذي جاء به أهل البيت الأطهار (عليهم السلام)، ننتخب منها آيتين لتكونان راسختان في أذهان المؤمنين عندما يريدون تقييم المواضيع والقضايا العقائدية التي تمر عليهم، فتكون تلك الآيتان حاضرتين دائماً في أذهانهم لتشكلا طوقاً فكرياً يمنع تسلل الأفكار المغالية الى ضميرهم، وهما:

1)    قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) {الشورى: 11}.

2)    قوله تعالى: ((وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)) {الاخلاص: 4}.

فلا يمكن لبشر حتى الأنبياء (عليهم السلام) ان يماثلوا ربّ العزّة في أن يخلقوا كخلقه أو يحييوا كإحياءه. والله تبارك وتعالى يخلق لا من شيء (أي خلق بعد عدم) كما يخلق من شيء[43]. وبعض الغلاة يقولون ان رب العزَّ يخلق لا من شيء أما المعصومون (عليهم السلام) فيخلقون من شيء!! وهذا وَهمٌ وغلو من قِبَلِهِم ما انزل الله به من سلطان.

فلا مماثل ولا مكافىء لله تبارك وتعالى في قدرته على الخلق في كلتا الحالتين: الخلق بعد العدم (لا من شيء) والخلق من شيء قد خلقه سلفاً.

ولا مماثل ولا مكافىء لله تبارك وتعالى في قدرته على الإحياء والرزق وتدبير شؤون البشرية والكائنات جميعاً، فله الولاية التكوينية مطلقاً لا شريك له. ولم يفوّض ولايته لأحد من خلقه ولا يكون لهم ذلك لإمتناعه ذاتاً عنهم، كما في الرواية عن مولانا الحجة بن الحسن (عجَّل الله فرجه الشريف): (إن الله تعالى هو الذي خلق الأجسام وقسم الأرزاق، لأنه ليس بجسم ولا حال في جسم، ليس كمثله شئ وهو السميع العليم، وأما الأئمة عليهم السلام فإنهم يسألون الله تعالى فيخلق ويسألونه فيرزق، إيجابا لمسألتهم وإعظاما لحقهم)[44].

 

وفي الختام، وعوداً على بدء، فقد كانت الفتوى السيستانية دقيقة في استعمال تعبير (وليس منه إسناد الخلق أو الإحياء إليهم) وفيه إسناد فعل الخلق الى الأنبياء (عليهم السلام) - كما نفهمه - أنَّه للتنبيه على أنَّه فعل مسند على نحو المجاز لا الحقيقة. فالأمر كله هو أمر الله تبارك وتعالى.

قال تعالى: ((قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))[45].


 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] سورة الانفال، الآية (17).

[2] سورة سبأ، الآية (10).

[3] سورة آل عمران (عليهم السلام)، الآية (49).

[4] الكافي / الشيخ محمد بن يعقوب الكليني - ج٨ ص٣٣٧.

[5] تصحيح اعتقادات الامامية / الشيخ المفيد – ص133.

[6] قال الشيخ القمي في الكنى والالقاب: (قطب الدين الراوندي ابو الحسن سعيد بن هبة الله بن الحسن، العالم المتبحر الفقيه المحدث المفسّر المحقق الثقة الجليل صاحب الخرائج والجرائح، وقصص الانبياء ولب اللباب وشرح النهج وغيره، كان من أعاظم محدثي الشيعة، قال شيخنا في المستدرك: فضائل القطب ومناقبه وترويجه للمذهب بانواع المؤلفات المتعلقة به أظهر وأشهر من أن يذكر). أنظر: الكنى والالقاب / الشيخ عباس القمي – ج3 ص72.

[7] الخرائج والجرائح / قطب الدين الراوندي - ج3 ص1032.

[8] المصدر السابق - ج3 ص1033.

[9] الصراط المستقيم / الشيخ علي بن يونس العاملي النباطي البياضي - ج1 ص57.

[10] بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 89 - ص 155.

[11] تفسير مقتنيات الدرر مير سيد علي الحائري الطهراني (المفسر) - ج 2 - ص 63.

[12] مقال (مفاتيح عملية الاستنباط الفقهي (166))، منشور في الموقع الالكتروني الرسمي لسيد كمال الحيدري.

[13] التفسير المبين / محمد جواد مغنية - ص 628.

[14] صراط الحق في المعارف الاسلامية والاصول الاعتقادية / الشيخ محمد آصف محسني – ج3 ص44.

[15] ولكن القول بذلك يدخل في باب القول بغير علم حيث يذكر سماحته ان هذا الرأي لا دليل عليه في كتاب ولا في سنة، والقول بغير علم حرام. قال تعالى في سورة الاسراء: ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36))).

[16]  الامامة وقيادة المجتمع / السيد كاظم الحائري – ص(126 – 132).

[17] الرؤيا الفلسفية / آية الله ماجد الكاظمي – ص133 و134.

[18] تفسير الميزان / السيد الطباطبائي - ج١٥ ص363.

[19] بل عباد مكرمون / السيد مظفر الشريفي – ص131.

[20] تفسير القمي / علي بن إبراهيم القمي / صححه وعلق عليه وقدم له حجة الاسلام العلامة السيد طيب الموسوي الجزائري الجزء الثاني مطبعة النجف 1387 ه‍ - ج٢ ص١٢٨.

[21] التبيان في تفسير القرآن / الشيخ الطوسي – ج8 ص97.

[22] سورة المؤمنون، الآية (14).

[23] سورة آل عمران (عليهم السلام)، الآية (49).

[24] قبل ان تتشكل ظاهرة اختراق التصوف للتشيّع.

[25]  التبيان في تفسير القرآن / الشيخ الطوسي – ج1 ص380.

[26]  المصدر السابق – ج2 ص468.

[27]  يقصد قوله تعالى: ((وما ارسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)).

[28]  التبيان في تفسير القرآن / الشيخ الطوسي – ج3 ص243.

[29]  التبيان في تفسير القرآن / الشيخ الطوسي – ج6 ص281.

[30] سورة المؤمنون، الآية (14).

[31] سورة المؤمنون، الآية (14).

[32] التوحيد / الشيخ الصدوق – ص63.

[33] أوائل المقالات - الشيخ المفيد - ص 304

[34] التبيان - الشيخ الطوسي - ج 6 – ص369.

[35] التبيان - الشيخ الطوسي - ج 7 - ص 354

[36] تفسير مجمع البيان - الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 299

[37] تفسير مجمع البيان - الشيخ الطبرسي - ج 7 - ص 180

[38] تفسير نور الثقلين - الشيخ الحويزي - ج 3 - ص 538

[39] تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج 15 - ص 22

[40] تفسير شبر - السيد عبد الله شبر - شرح ص 331

[41] الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج10 ص 430 و431.

[42] المصدر السابق - ج 14 ص391.

[43] فقد خلق سبحانه وتعالى آدم (عليه السلام) من التراب، كما في قوله تعالى: ((إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)) {سورة آل عمران (عليهم السلام): آية 59}.

وكما في قوله تعالى: ((وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نَارٍ)) {سورة الرحمن (جلَّ جلاله): آية 15}.

وكما في قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)) {سورة الأنبياء (عليهم السلام): آية 30}.

[44] الغيبة / الشيخ الطوسي - ج١ ص٣١٦.

[45] سورة آل عمران (عليهم السلام)، آية 154.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لوازم الغلو في التفسير بالرأي لقوله تعالى: ((فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ))