بسم الله الرحمن الرحيم

 

الشيخ جميل البزوني والسيد جعفر الحكيم والجمع بين المناهج

 

نبيل الكرخي


في مقال تحت عنوان (السيد جعفر الحكيم والجمع بين المناهج) كتب الشيخ جميل مانع البزوني مناصراً لمنهج ملا صدرا وابن عربي الفلسفي- العرفاني الذي عرف بأسم مدرسة الحكمة المتعالية، ومؤيداً لإدخال (الفلسفة والعرفان) معاً في الدروس الحوزوية والذي يعني ادخال بعض التغييرات في عقيدة الشيعة الامامية بخلاف ما عرفه علمائها الاوائل طيلة القرون العشرة الاولى الهجرية، وكمثال نذكر قول هذه المدرسة بأنَّ الارادة الإلهية هي صفة ذات وليست صفة فعل وأيضاً قولهم بأنَّ المعاد يتم بالجسم المماثل (مثالي) وليس بالجسم الترابي (بإعادة خلق نفس الجسم الترابي الذي وردت بمعناه آيات القرآن الكريم)، وهما - أي جعل الارادة صفة ذات وجعل المعاد بالجسم المماثل - مشار اليهما في كتاب (عقائد الامامية) للشيخ محمد رضا المظفر وهو أيضاً من المنتمين لمدرسة الحكمة المتعالية والمروّجين لأفكارها - وهذا الكتاب فيه اخطاء اخرى نبهنا عليها في مقال مستقل - وكذلك عقيدتهم في الصادر الاول وهو قولهم (الواحد لا يصدر منه الا واحد)، وقولهم بالفيض بدلاً من الخلق، ووحدة الوجود، وقولهم بالعقول العشرة وغيرها من آراء فلاسفة اليونان التي ادخلوها في الفكر الديني الشيعي!

وقد حاول الشيخ جميل البزوني تجميل صورة ادخال تعاليم ابن عربي وتابعه المخلص ملا صدرا، في العقيدة والفكر الشيعي، فأطلق على هذا المنهج: "منهج العلوم العقلية"! واشار الى وجود معارضين لـه حيث اشار الى ان علماء آل الحكيم بزعامة المغفور له المرجع الراحل السيد محسن الحكيم (رضوان الله عليه) كانوا بالضد من تغليف الحوزة بتعاليم ابن عربي وملا صدرا ورافضين لتدريس الفلسفة والعرفان في الحوزة العلمية، واستثنى سيد جعفر الحكيم منهم بإعتباره من اساتذة الحوزة والمدرسين لتعاليم ملا صدرا وابن عربي والمروّجين لها. وفي الحقيقة فإنَّ جميع علماء الشيعة الذين تولوا زعامة التشيّع من خلال منصب المرجعية العامة كانوا بالضد من تعاليم ابن عربي وملا صدرا، وكانوا يرفضون خلط العقيدة والفكر الشيعي بتعاليمهما.

فالموضوع في حقيقته ليس ان هناك منهج مناصر للعلوم العقلية - يمثله في مقال الشيخ البزوني سيد جعفر الحكيم - ومنهج مخالف له، فهذا تصور يجانب الصواب. بل ان العلوم العقلية هي من مرتكزات الفكر الشيعي، ولكن لا يمكن إختصار العلوم العقلية بالفلسفة بدليل إنَّ "آيقونة" العلوم العقلية في الفكر الشيعي، إنْ صح التعبير، العلامة الحلّي (رضوان الله عليه) كان يرى وجوب جهاد الفلاسفة، يقول العلامة الحلي (رض) (المتوفى 726هـ) في تذكرة الفقهاء فصل (فيمن يجب جهاده وكيفية الجهاد): (الذين يجب جهادهم قسمان: مسلمون خرجوا عن طاعة الامام وبغوا عليه، وكفار، وهم قسمان: أهل الكتاب أو شبهة كتاب، كاليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من اصناف الكفار كالدهرية وعباد الاوثان والنيرات، ومنكري ما يعلم من الدين ضرورة، كالفلاسفة وغيرهم)[1]. وكذلك استاذه الخواجة نصير الدين الطوسي من البارزين في العلوم العقلية واول من استعمل ادوات فلسفية في تعزيز علم الكلام ومع ذلك فهو لم يكن من انصار فكر ابن عربي ولا من الدعاة الى عرفانه، فلا الفتوحات المكية ولا فصوص الحكمة كان لها اثر في فكره. كما ان الخواجة الطوسي كان يفند نظرية (الواحد لا يصدر عنه الا واحد) التي تبناها فيما بعد ملا صدرا ومدرسة الحكمة المتعالية، حيث نجده يقول: (قالت الفلاسفة: الواحد لا يصدر عنه الا واحد. وكل شبهة لهم على هذه الدعوى (هي) في غاية الركاكة ولذلك قالوا: لا يصدر عن الباريء تعالى بلا واسطة الا عقل واحد والعقل فيه كثرة، هي الوجوب والامكان وتعقّل الواجب وتعقّل ذاته ونفس وفلك مركب من الهيولي والصورة ويلزمهم أن أيّ موجودين فرضنا (وجودهما) في العالم ، كان احدهما (ضرورة) علّة للآخر بواسطة أو بغيرها. وأيضاً: التكثرات التي في العقل ، ان كانت موجودة صادرة عن الباريء لزم صدورها عن الواحد وان صدرت عن غيره لزم تعدد الواجب وإنْ لم تكن موجودة لم يكن تأثيرها في الموجودات معقولاً)[2]. وفي كتابه "قواعد العقائد" يقول المحقق الشيخ نصير الدين الطوسي ما نصّه: (فصل: قالت الحكمـاء: الواحد لايصدر عنه من حيث هو واحد إلاّ شيء واحد، وذلك لأنّه إن صدر عنه شيئان، فمن حيث [انه] صدر عنه أحدهما لم يصدر عنه الآخر، وبالعكس، فإذن صدرا عنه من حيثيتين، والمبدأ الأوّل تعالى واحد من كل الوجوه ، فأوّل ما يصدر عنه لايكون إلاّ واحداً. ثمّ إنّ ذلك الواحد يلزمه أشياء، إذ له اعتبار من حيث ذاته، واعتبار بقياسه إلى مبدئه، واعتبار للمبدأ بالقياس إليه، وإذا تركّبت الاعتبارات حصلت اعتبارات كثيرة، وحينئذ يمكن أن يصدر عن المبدأ الأوّل بكلّ اعتبار شيء واحد ، وعلى هذا الوجه تكثّرت الموجودات الصادرة عنه تعالى. واما المتكلمون فبعضهم يقولون إنّ هذا إنّما يصحّ أن يقال في العلل والمعلولات، أمّا [في] القادر أعني الفاعل المختار، فيجوز أن يفعل اشياء من غير تكثر الاعتبارات ومن غير ترجيح بعضها على بعض. وبعضهم ينكرون وجود العلل والمعلولات أصلاً ، فيقولون بأنّ لامؤثّر إلاّ اللّه [تعالى] ، وأنّه تعالى إذا فعل شيئاً، [كالإحراق] مقارناً لشيء كالنار على سبيل العادة، ظنّ الخلق أنّ النّار علّة ، والإحراق أثره ومعلوله، وذلك الظنّ باطل)[3]. وقال الشيخ عبد الله نعمة: (ومن آثارهم البارزة ان بعض فلاسفتهم ومنهم (نصير الدين الطوسي) قد اتى على نظرية الصدور والعقول العشرة يهدمها من اساسها. ونظرية العقول العشر لتعليل كيفية صدور الكثير من الواحد البسيط وتفسير صدور المخلوقات الكثيرة المتضادة عن المبدأ الاول، كانت هي النظرية البارزة التي اخذ بها الفلاسفة الاسلاميون امثال الفارابي وابن سينا. وهي نظرية اغريقية نمت في احضان الصابئة الحرانيين، وتلقفها عنهم الاسلاميون باعجاب وتقدير. اما فيلسوفنا الطوسي فقد اثبت بالبرهان المنطقي انها غير صحيحة وخاصة في "الفاعل المختار")[4]. وبيّن الشيخ ماجد الكاظمي بقوله: (فما عليه المحقق نصير الدين الطوسي (ره) في تجريده من بطلان قاعدة "الواحد لا يصدر منه إلا واحد" ، هو الحق الذي لا محيص عنه)[5].

ويجب ان ننوه إلى أنَّ الرافضين لتعاليم ابن عربي وملا صدرا ليسوا بالضد من تدريس الفلسفة في الحوزة إذا كان تدريسها لغرض تطوير القابلية الذهنية للطالب ولغرض الرد على المقالات الفلسفية الباطلة مما هو متصل بحقانية الدين والمذهب.

ومن اغرب ما قاله الشيخ البزوني في مقاله هو قوله: (ان السيد جعفر الحكيم يعتبر من الاساتذة الذين حازوا قصب السبق في الجمع بين التوجهات بحكم اصوله العربية الميالة الى التأمل في النصوص والروايات وبحكم تتلمذه على بعض اساتذة المعقول ولعل هذا ما جعل درس السيد جعفر من الدروس التي يتوقع لها انتاج شيء مخالف للمنهج المتبع في البحوث المشابهة)! فهل يمكن حقاً الجمع بين اتجاهات متضادة دون ان يكون هناك ميل نحو احداهما وترجيح لأحدهما على الآخر؟! ثم ما هذه النبرة العنصرية في ادخال الاصول العرقية العربية كعامل يتحكم في جودة الانتاج الفقهي والاصولي الحوزوي!! هذا غير مقبول على الاطلاق.

والان ينبغي ان نذكر سؤالاً قد يتطرق اليه ذهن القاريء وهو ما اثر ان يكون المؤمن من المنتمين فكرياً لمدرسة الحكمة المتعالية أي من اتباع ملا صدرا وابن عربي، او لا يكون كذلك بل يكتفي بالتشيّع لآل البيت الاطهار (عليهم السلام)؟ والجواب هو ان الاثر يظهر في ثلاثة اتجاهات على أقل تقدير:

الاول: ان مدرسة ملا صدرا وابن عربي (الحكمة المتعالية) هي امتداد لمدرسة فكرية موغلة في التاريخ تدعى الغنوصية هدفها البحث عن المعرفة بعيداً عن الوحي من خلال الكشف والشهود، وقد اخترقت الغنوصية جميع الاديان والحضارات، وظهرت أيضاً بأسم التصوّف. فأساس هذه المدرسة يقع في جبهة مخاصمة للنبوات والاديان وإن اضطرت في فترات تأريخية ان تصطبغ بصبغة الدين السائد في منطقة معينة وفي زمن معين، فكان للتصوّف اثر في اليهودية وفي المسيحية وفي الاسلام! فهل يقبل المؤمن ان ينتمي لهذه الجبهة الغنوصية المتآمرة على الأديان، وإنْ أختلفت مظاهرها؟!

الثاني: ان مدرسة الحكمة المتعالية فيها بعض التعاليم والافكار في العقيدة والفكر الديني بخلاف منهج أئمة آل البيت الاطهار (عليهم السلام)، ومن يفترق عنهم صلوات الله عليهم لا يكون نصيبه الا الضلال بشهادة حديث الثقلين.

ويمكن ان نذكر نموذجاً للأختلاف العقائدي بين أتباع آل البيت عليهم السلام وأتباع ملا صدرا، وهو صفة الإرادة، التي هي عند اتباع أئمة آل البيت (عليهم السلام) من صفات الفعل الإلهي بينما هي عند اتباع ملا صدرا من صفات الذات الإلهية. قال الشيخ محمد رضا المظفر وهو من اعلام مدرسة ملا صدرا: (ونعتقد: أنّ من صفاته تعالى الثبوتية الحقيقية الكمالية التي تسمى بصفات الجمال والكمال ـ كالعلم، والقدرة، والغنى، والاِرادة، والحياة ـ هي كلّها عين ذاته، ليست هي صفات زائدة عليها، وليس وجودها إلاّ وجود الذات)[6]. وفي الحقيقة فإن اعتبار صفة (الارادة) الإلهية من صفات الذات المقدسة هو من العقائد الصوفية لمدرسة الحكمة المتعالية وليست من عقائد مدرسة آل البيت (عليهم السلام) ، فالارادة عند الشيعة الامامية تبعاً لأقوال الائمة الاطهار (عليهم السلام) هي فعله سبحانه وتعالى ، فهي من الصفات الفعلية وليس من الصفات الذاتية.

قال السيد ابو القاسم الخوئي (رضوان الله عليه): (فإنّ الارادة الذاتية مما ليس منه في الروايات عين ولا أثر. وإن شئت قلت: أنّه لو كانت له تعالى إرادتان إحداهما ذاتية والاخرى فعلية، لأشارت الروايات اليهما لا محالة، مع ان الروايات تنفي الارادة الذاتية صريحاً وتقول: من زعم ان الله لم يزل مريداً فليس بموحد. وبالجملة الارادة منه تعالى عبارة عن المشيّة التي هي فعل من أفعاله سبحانه ، فيوجد الافعال بإعمال القدرة ويوجد إعمال القدرة بنفسه ، وهذا المعنى هو المراد في صحيحة عمر بن أذينة ، من قوله (عليه السلام): ((خلق الله المشيّة بنفسها ثم خلق الاشياء بالمشيّة)) ، وقرأ بعض الفلاسفة – واظن انه المير داماد – المشيّة بالرفع مع حذف لفظ خلق، أي المشيّة ثابتة بنفسها ، مع أنّ الموجود في الرواية ذكر لفظ خلق قبل المشيّة وتكراره بعدها ، فراجع. فتحصّل أنّ إرادته تعالى لا تكون من صفاته الذاتيّة بل من صفاته الفعليّة ، [وأنّه] قد عبّر عنها في الروايات تارة بالمشيّة – كما في صحيحة محمد بن مسلم ، وكما في صحيحة عمر بن اُينة التي تقدّمت الاشارة اليها – واخرى بالإحداث ، وثالثة بالفعل ، كما في صحيحة صفوان بن يحيى. فالمتعيّن هو الاخذ بهذه الروايات الدالّة على أنّ إرادته تعالى هي مشيّته وإعمال قدرته ، وهي فعله فقط ، وإما الإرادة الذاتية وقد يعبّر عنها بالإرادة الازليّة التي هي الأساس لمذهب الجبر وما يرجع إليه من أنّ أفعال العباد منتهية إليها ممّا لا حقيقة له)[7].

والرواية التي اشار اليها النص السابق هي ما رواه الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) في كتابه (التوحيد) بسنده عن سليمان بن جعفر الجعفري قال: قال الرضا (عليه السلام): (المشية والإرادة من صفات الأفعال، فمن زعم أن الله تعالى لم يزل مريداً شائياً فليس بموحد)[8].

وقال السيد عبد الاعلى السبزواري (رضوان الله عليه): (والائمّة الهداة (عليهم السلام) جعلوا إرادته تعالى عين فعله)[9].                                                                                                                            

وقال الميرزا جواد التبريزي (رضوان الله عليه): (مشيئته سبحانه وتعالى إرادته، وإرادته من صفات الافعال كما وردت في ذلك الروايات، لا من صفاته الذاتية)[10].

ويقول الشيخ نصير الدين الطوسي إنَّ الارادة نفس داعي الفعل[11].

فالارادة هي من الصفات الفعلية وليست من صفات الذات، والفرق بينهما هو أنَّ صفات الذات هي ما لا يصح سلبه عنه تعالى كالحياة والعلم والقدرة. بينما صفات الفعل هي ما يمكن سلبه عنه جلّ شأنه كصفات الخلق والرزق والارادة، كقولنا: لم يرزقه الله ذكور، او: لم يخلق الله انسانا بعشرة رؤوس، او: لو يرد الله هلاكه.

وقد وقع الخلاف داخل مدرسة الحكمة المتعالية حول الارادة ، فالارادة عند صدر الدين الشيرازي (الملا صدرا)[12] والشيخ محمد رضا المظفر[13] تعد من الصفات الذاتية للواجب تعالى ، بينما هي عند السيد محمد حسين الطباطبائي هي صفة فعلية للواجب تعالى منتزعة من مقام الفعل[14]. وكذلك قال القاضي الفيلسوف العارف المتصوف محمد سعيد القمي: (اعلم ان حدوث الارادة والمشيئة من مقررات طريقة أهل البيت ، بل من ضروريات مذهبهم صلوات الله عليهم)[15].

الثالث: ان مدرسة ملا صدرا تبرز شخصية مثيرة للجدل والريبة هي شخصية "محي الدين ابن عربي" كشخصية دينية مرجعية في مقابل مرجعية آل البيت الاطهار (عليهم السلام)، فنحن مأمورون بإتباع آل البيت (عليهم السلام) والأخذ عنهم معالم ديننا ومعتقدنا، وترك ونبذ من سواهم، مهما كان عنوانه. بينما مدرسة ملا صدرا تأخذ علومها ومعارفها من ابن عربي وتصوفه وعرفانه!! وهناك اربعة من اكابر المتخصصين في مدرسة ملا صدرا "الحكمة المتعالية" يؤكدون ان كل ما جاء به ملا صدرا هو شرح لما جاء به من قبله محي الدين ابن عربي في كتابيه فصوص الحكم والفتوحات المكية ، وهم:

1.       الشيخ حسن حسن زادة آملي.

2.       الشيخ جوادي آملي.

3.       السيد علي القاضي.

4.       السيد محمد حسين الطباطبائي.

 وفيما يلي نقرأ تقريرات لسيد كمال الحيدري – وهو من اتباع ملا صدرا وابن عربي - بقلم جواد علي كسار جاء فيها بهذا الخصوص ما يلي: (نَمرّ على شهادات خطيرة تلتقي في الدلالة باجمعها على ان ابرز مرتكزات الحكمة المتعالية تثوي في كتابات الشيخ محي الدين بن عربي (560- 638هـ) بالاخص كتابيه "فصوص الحكم" و"الفتوحات المكية" ، وان كل ما يعود لصدر الدين الشيرازي هو تشييد الابنية البرهانية لمقولات الشيخ الاكبر وامهات افكاره ، بحيث ام يكن كتاب "الحكمة المتعالية" الا صيغة برهانية لمقولات ابن عربي وأفكاره. بحيث لم يكن كتاب "الحكمة المتعالية" الا صيغة برهانية لمقولات ابن عربي وأفكاره. الدال في هذه الشهادات انها جميعاً تنتمي الى رموز كبيرة من ممثلي مدرسة "الحكمة المتعالية" الذين سبروا بواطنها وغاصوا أغوارها وأحاطوا بخفاياها بأستاذية لامعة يشهد لهم بها الجميع.

بعض هؤلاء اختار منهجاً تحليلياً تطبيقياً لكتاب الحكمة المتعالية مثل الباحث الشيخ حسن حسن زادة آملي ، الذي راح يفكك نصوص صدر الدين الشيرازي ويرجع محتوياتها الى اصولها في كتابات ابن عربي ، فانتهى بعد ما يناهز العشرين عاماً من البحث التنقيبي الى ما يلي: "إنّ جميع المباحث الرفيعة والعرشية للاسفار منقولة من الفصوص والفتوحات وبقية الصحف القيّمة والكريمة للشيخ الاكبر وتلاميذه بلا واسطة أو مع الواسطة". ثم يقول: "إذا ما اعتبرنا كتاب الاسفار مدخلاً أو شرحاً للفصوص والفتوحات فقد نطقنا بالصواب".

كما يقول أيضاً في واحدة من الحصائل التي انتهت إليها دراسته: "إنَّ صدر المتالهين نفسه يذكر في مواضع عديدة اسم ذلك العظيم بإجلال ، كما يذكر صحفه العلمية، وهو يفعل ذلك بخشوع وتواضع لا يضارع بذكر أحد من اكابر العلماء ومشايخ أهل التحقيق، واعاظم اهل الكشف والشهود، ولا يثني على أحد كما يثني عليه ، لأنه يعرف أفضل من أي شخص آخر أنّ أساس حكمته المتعالية الفتوحات والفصوص ، وما أسفاره العظيمة إلا شرح تحقيقي لهما")[16].

ويضيف: (أما الشيخ جوادي آملي الذي يعد أبرز ممثلي مدرسة الحكمة المتعالية في حوزة قم المعاصرة إن لم يكن أبرزهم على الاطلاق ، فهو يعتقد أنّ النصاب التام لما ذكره الفخر الرازي في ابن سينا من انه : "ما سبقه إليه من قبله ولا لحقه من بعده" هو الشيخ ابن عربي الذي يقول فيه: "لا يرقى اليه أحد من بين معاريف أهل العرفان، ولا له نظير منذ عصره حتى الان ... لأنّ جميع ما قاله الاخرون وكتبوه بالعربية والفارسية، نثراً كان أو نظماً في الماضي والحاضر يعدّ بضعة نسبة الى بحر محي الدين الموّاج".

ثم يتحدث عن المسافة العلمية بين الشيخ الاكبر من جهة وبين شيخ الاشراق وصدر المتألهين من جهة أخرى ، فيقول نصاً: "إنّ المسافة العلمية التي تفصل ابن عربي عن شيخ الاشراق (رحمه الله) شاسعة، وعن صدر المتالهين (قدس سره) ليست قليلة ، الذي يشهد على ذلك ما يبديه صدر المتالهين لمحيي الدين من احترام غير متناه، مما لا يدانيه فيما يفعله نع أي حكيم أو عارف آخر، ذلك لأن الكثير من مباني الحكمة المتعالية مدينة الى العرفان الذي ارسى قواعده المعروفة ابن عربي نفسه")[17].

ويضيف: (ثم شهادة أوقع اثراً لأستاذ السيد الطباطبائي، السيد علي القاضي التبريزي، يقول فيها نصاً عن مقام ابن عربي: "إنَّ احداً من الرعية لم يبلغ إلى ما بلغه محي الدين بن عربي في المعارف العرفانية والحقائق النفسانية، بعد مقام العصمة والامامة".

ثم ينعطف موضحاً تأثير ابن عربي المطلق على صدر الدين الشيرازي، فيقول: "كل ما لدى ملاصدرا هو من محي الدين، وقد جلس على مائدته")[18].

ثم يضيف: (أما العلامة الطباطبائي فيعتقد أنّه: "لم يستطع أحد في الاسلام أن يأتي بسطر واحد مما كتبه محي الدين")[19] ... (كما ان الشيخ مرتضى مطهري نفسه يسجّل: "إنّ الملا صدرا لا يتواضع لأحد كما يتواضع لمحيي الدين ، وهو يعد ابن سينا لا شيء مقابل محي الدين")[20].

 

ولم يتفرد علماء آل الحكيم بالوقوف ضد تدريس تعاليم ابن عربي وملا صدرا الفلسفية والعرفانية في الحوزة العلمية بل سبقهم الى ذلك العديد من مراجع الدين والعلماء منهم الشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر والشيخ الانصاري والسيد كاظم اليزدي صاحب العروة الوثقى والسيد ابو الحسن الاصفهاني والسيد حسين البروجردي (رضوان الله عليهم) وهم ممن تولوا المرجعية العامة للشيعة، وأيضاً من ابرز من يقف بالضد من تدريس الفلسفة والعرفان في الحوزة العلمية في النجف الاشرف اليوم الى جانب تصدي المرجع السيد محمد سعيد الحكيم (مد ظله) لها، هو المرجع الشيخ إسحاق الفياض (مد ظله)، ولا تخفى الفتوى الشهيرة للمرجع العام في عصرنا سماحة السيد السيستاني (دام ظله الوارف) والتي بيّن فيها عدم رضاه عن تعاليم ابن عربي والذي يشمل تعاليم ملا صدرا بطبيعة الحال.

وفيما يلي استعراض لأبرز آراء علماء الشيعة التي قيلت في القرون القريبة الماضية والتي تناويء اتخاذ الفلسفة كمرتكز في الفكر الديني.

 

ذم العلامة المجلسي (طاب ثراه) للفلسفة:

قال العلامة محمد باقر المجلسي (طاب ثراه) (1037- 1111)هـ ، وهو يتحدث عن انتهاء العلوم الى امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليهما السلام) وبعض الدعاوى الباطلة التي تنتسب اليه للحصول على الشرعية! فقال ما نصه : (اعلم أن دأب أصحابنا رضي الله عنهم في إثبات فضائله صلوات الله عليه الاكتفاء بما نقل عن كل فرقة من الانتساب إليه ع لبيان أنه كان مشهوراً في العلم مسلما في الفضل عند جميع الفرق وإن لم يكن ذلك ثابتا بل وإن كان خلافه عند الإمامية ظاهراً كانتساب الأشعرية و أبي حنيفة و أضرابهم إليه فإن مخالفتهم له ع أظهر من تباين الظلمة و النور ومن ذلك ما نقله ابن شهرآشوب رحمه الله من كلامه في الفلسفة فإن غرضه أن هؤلاء أيضا ينتمون إليه ويروون عنه وإلا فلا يخفى على من له أدنى تتبع في كلامه (ع) أن هذا الكلام لا يشبه شيئا من غرر حكمه وأحكامه بل لا يشبه كلام أصحاب الشريعة بوجه وإنما أدرجت فيه مصطلحات المتأخرين وهل رأيت في كلام أحد من الصحابة والتابعين أو بعض الأئمة الراشدين لفظ الهيولى أو المادة أو الصورة أو الاستعداد أو القوة، والعجب أن بعض أهل دهرنا ممن ضل وأضل كثيراً يتمسكون في دفع ما يلزم عليهم من القول بما يخالف ضرورة الدين إلى أمثال هذه العبارات وهل هو إلا كمن يتعلق بنسج العنكبوت للعروج إلى أسباب السماوات أو لا يعلمون أن ما يخالف ضرورة الدين ولو ورد بأسانيد جمة لكان مؤولا أو مطروحا مع أن أمثال ذلك لا ينفعهم فيما هم بصدده من تخريب قواعد الدين هدانا الله و إياهم إلى سلوك مسالك المتقين ونجانا و جميع المؤمنين من فتن المضلين))[21].

 

المحقق البحراني يذم الصوفية:

قال الشيخ يوسف البحراني (1107- 1186)هـ ، في الدرر النجفية: (وهم مشايخ الصوفية الذين يكادون بدعاويهم يزاحمون مقام الربوبية ، فما بين من وقع في القول بالحلول أو الاتحاد ، او وحدة الوجود الموجب جميعه للزندقة والالحاد، وامثال ذلك من المقالات الظاهرة الفساد)[22].

 

تكفير الشيخ شريعتمدار للقائلين بوحدة الوجود:

قال الشيخ محمد جعفر الاسترآبادي المعروف بشريعتمدار (1198- 1263)هـ: (وافاد صدر الحكماء في(الشواهد الربوبية) أن الحركة عبارة عن الخروج من القوّة الى الفعل وأثبت الحركة في الجوهر الصوري ، مع انه لا بدّ في كل حركة من بقاء الموضوع بشخصه ، بناءً على ان الجوهر – الذي وقعت فيه الحركة الاشتدادية – نوعه باقٍ في وسط الاشتداد وإن تبدلت صورته الخارجية بتبدّل طور من الوجود بطور آخر أشدَّ أو اضعف ، فتبدُّل الوجود في الحركة الجوهرية تبدّل في أمر خارج عن الجوهر. ولا يخفى أنّ ذلك مبني على القول بأصالة الوجود ، وأن وجود كلّ شيء تمام حقيقته ، ولا يصح ذلك إلا بالقول بوحدة الوجود وهو باطل بل كفر أشدُّ من كفر النصارى واليهود، كما لا يخفى على المتأمل"[23].

 

ذم وتحريم صاحب الجواهر (رضوان الله عليه) للفلسفة:

اما الشيخ محمد حسن النجفي (رضوان الله عليه) (توفى 1266هـ) صاحب كتاب جواهر الكلام ، والمرجع العام للشيعة في زمنه، ففي كتاب السلسبيل للعلامة الجليل الحاج ميرزا أبو الحسن الإصطهباناتي قال: سمعت عن بعض تلامذة صاحب الجواهر أنه في مجلس درسه جاء بعض أهل العلم وفي يده كتاب من الفلسفة، فسأل عنه عما في يده، فلما رآه صاحب الجواهر قال: والله ما جاء محمد من عند الله إلا لإبطال هذه الخرافات والمزخرفات[24].

 

موقف الشيخ الانصاري (رضوان الله عليه) من الفلسفة:

قال الشيخ الانصاري (توفي 1281هـ) في فرائد الاصول وهو يرى أنه لا يحق للفقيه الخوض في المسائل العقلية بدعوی تحصيل ملاكات الاحكام فان ذلك يخالف توقيفية الاحكام وأنه لا نتيجة عملية له سوی التشكيك بالامارات الظنية التي عمدتها الاخبار، ثم يعرج الى المنع من ادخالها في القضايا العقائدية أيضاً، فيقول عن كل ذلك: "وقد اشرنا في أول المسالة الى: عدم جواز الخوض لاستكشاف الاحكام الدينية في المطالب العقلية والاستعانة بها في تحصيل مناط الحكم والانتقال منه اليه على طريق اللم، لأن انس الذهن بها يوجب عدم حصول الوثوق بما يصل اليه من الاحكام التوقيفية، فقط يصير منشأ لطرح الامارات النقلية الظنية لعدم حصول الظن له منها بالحكم. وأوجب من ذلك ترك الخوض في المطالب العقليّة النظرية، لإدراك ما يتعلّق بأصول الدين، فإنّه تعريض للهلاك الدائم والعذاب الخالد، وقد اشير الى ذلك عند النهي عن الخوض في مسئلة القضاء والقدر، وعند نهي بعض اصحابهم صلوات الله عليهم عن المجادلة في المسائل الكلامية. لكن الظاهر من بعض الاخبار: أن الوجه في النهي عن الاخير عدم الاطمئنان بمهارة الشخص المنهي في المجادلة، فيصير مفحماً عند المخالفين، ويوجب ذلك وهن المطالب الحقة في نظر اهل الخلاف."[25].

 

ذم الميرزا النوري (طاب ثراه) لمنهج ملا صدرا:

قال المحدث الميرزا حسين النوري الطبرسي (1254-1320)هـ ، في خاتمة المستدرك: (الحكيم المتأله الفاضل محمد بن ابراهيم الشيرازي الشهير بملا صدرا، محقق مطالب الحكمة، ومروِّج دعاوي الصوفية بما لا مزيد عليه، صاحب التصانيف الشائعة التي عكف عليها من صدقه في آرائه وأقواله، ونسج على منواله، وقد أكثر فيها من الطعن على الفقهاء حملة الدين، وتجهيلهم وخروجهم من زمرة العلماء، وعكس الأمر في حالي ابن العربي صاحب الفتوحات فمدحه ووصفه في كلماته بأوصاف لا تنبغي إلا للأوحدي من العلماء الراسخين، مع أنه لم ير في علماء العامة ونواصبهم أشد نصباً منه، أليس هو القائل في الفتوحات في ذكر بعض حالات الأقطاب ما لفظه: ومنهم من يكون ظاهر الحكم، ويحوز الخلافة الظاهرة كما حاز الخلافة الباطنة من جهة المقام، كأبي بكر وعمر وعثمان - وعلي وحسن ومعاوية بن يزيد وعمر بن عبد العزيز والمتوكل)[26].

 

تحريم المرجع العام السيد كاظم اليزدي (رضوان الله عليه) للفلسفة:

حكى القوچاني عن أحد تلامذته أنّه عندما وجهه لدراسة الفلسفة امتنع، ثم ذهب إلى السيّد كاظم اليزدي (رضوان الله عليه) - (1247- 1337)هـ - الذي كان أبرز المراجع في عصره ليستفتيه في ذلك ، فلما التقاه يقول: "التقيت بالسيّد اليزدي وسألته عن رأيه بقراءتي للفلسفة بمقدار يمكنني من معرفة مصطلحاتها، فقال لي: لا ينبغي أن تدرسها إذ موضوعاتها ليست حقّاً ولا باطلا صرفاً ، فإن لم تسقط في الضلالة فإنّك ستضيع عمرك على الأقل ، ولهذا فأنا أعتبرها حراماً"[27].

 

ممانعة المرجع العام السيد ابو الحسن الاصفهاني (رضوان الله عليه) لتدريس الفلسفة في الحوزة:

وهو السيد ابو الحسن الاصفهاني (رض) (1284-1365)هـ ، المرجع العام للشيعة في الفترة (1921-1945)م. وقد حدثني الشيخ حيدر الوكيل قال حدثه السيد حسين بن سيد علاء بن السيد محسن الحكيم (رض) قال حدثني الشيخ الوحيد الخراساني انه ذهب الى السيد الاصفهاني (ره) واخبره بكثره الدروس الفلسفية في الحوزة فجمع الفضلاء في احد البيوت واخبرهم بانه يحرم الراتب على من يشتغل بها[28].

وقال الشيخ علي النمازي الشاهرودي: "قـال العـلامة الجليل المرجــع الديني السيــد أبــو الحسن الاصفهاني في كتاب الوسيلة في كتاب الوقف: لو وقف على العلماء انصرف إلى علماء الشريعة فلا يشمل غيرهم كعلماء الطب والنجوم والحكمة. يظهر منه أن في نظره أن علماء الحكمة كعلماء النجوم ليسوا بعلماء الشريعة، وكتبهم ليست كتب الشريعة المقدسة"[29].

 

تحريم المرجع العام السيد البروجردي (رضوان الله عليه) للفلسفة:

وبخصوص تحريم المرجع العام السيد حسين الطباطبائي البروجردي (رضوان الله عليه) (1292- 1380)هـ ، قال الشيخ علي ملكي الميانجي: (وقد سمعت آية الله السيد موسى الشبيري الزنجاني المعاصر يقول: لقد كان آية الله البروجردي على وشك تحريم العلوم العقلية إلى جانب السيد محمد رضا سعيدي ــ آية الله الشهيد سعيدي ــ وكان هو أيضاً مخالفاً للفلسفة، إلاّ أنّ تدخل البهبهاني وغيره من العلماء منع من حصول ذلك. أما مخالفة البروجردي لتدريس الفلسفة في حوزة قم فهو أمرٌ مفروغ منه؛ فقد أبدى رفضه لها سواء بالتصريح بالنهي عن ذلك أو عن طريق إظهار عدم ارتياحه لممارسة ذلك العمل في حوزات قم)[30].

 

انتقاد المرجع العام السيد محسن الحكيم (رضوان الله عليه) لوحدة الوجود:

قال السيد محسن الطباطبائي الحكيم (رضوان الله عليه) (1306- 1390)هـ / (1889- 1970)م ، في مستمسك العروة الوثقى: (أما القائلون بوحدة الوجود من الصوفية فقد ذكرهم جماعة ، ومنهم السبزواري في تعليقة على الاسفار ، قال: "والقائل بالتوحيد إما أن يقول بكثرة الوجود والموجود جميعا مع التكلم بكلمة التوحيد لسانا ، واعتقادا بها إجمالا ، واكثر الناس في هذا المقام . وإما أن يقول بوحدة الوجود والموجود جميعا ، وهو مذهب بعض الصوفية . وإما أن يقول بوحدة الوجود وكثرة الموجود ،

وهو المنسوب إلى أذواق المتألهين. وعكسه باطل. وإما أن يقول بوحدة الوجود والموجود في عين كثرتهما ، وهو مذهب المصنف والعرفاء الشامخين . والاول : توحيد عامي ، والثالث : توحيد خاصي ، والثاني : توحيد خاص الخاص ، والرابع : توحيد أخص الخواص" . أقول : حسن الظن بهؤلاء القائلين بالتوحيد الخاص والحمل على الصحة المأمور به شرعا ، يوجبان حمل هذه الاقوال على خلاف ظاهرها، وإلا فكيف يصح على هذه الاقوال وجود الخالق والمخلوق، والآمر والمأمور والراحم والمرحوم ؟ ! وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب)[31].

 

السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه) يتجاهل مدرسة الحكمة المتعالية وينقض عدة من مبانيها:

لم يرد عن السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه) (1353- 1400)هـ ، ما يشير الى اعتباره العرفان طريق من طرق المعرفة. كما لم يرد عنه اهتمامه بـ"وحدة الوجود والموجود" هذا المفهوم الفلسفي الذي تبنته مدرسة الحكمة المتعالية تبعاً لابن عربي!

قال الشيخ علي كوراني: (كنت محباً لدراسة الفلسفة ، ودرست شرح التجريد وقسماً من شرح منظومة السبزواري عند المرحوم السيد محمد جمال الهاشمي (رحمه الله) ، وأعجبت بكتاب أستاذنا السيد محمد باقر الصدر(رحمه الله) (فلسفتنا) واستوعبته ودرسته مرات ، لكني كنت أعاني من سؤال كبير: حتى لو قلنا بعدم التعارض بين الفلسفة والدين ، فأيهما أحرى باتخاذه منبعاً للمعرفة والتفكير: الوحي ، أم نتاج تفكير رجال يونانيين ، كأرسطو وأفلاطون ؟ ومهما يكن ، فإني أنصح الطالب أن لايدرس الفلسفة إلا بعد أن يتعمق في العقيدة والفكر الإسلامي ، ويكون بمستوى بحث الخارج على الأقل . وقلت يوماً لأستاذنا السيد الصدر (رحمه الله) : اشتغلتَ بالفلسفة كثيراً وألفتَ كتاب فلسفتنا، وكتاب الأسس المنطقية للإستقراء، فماذا استفدت منها؟ فأجاب: الإنسان عندما يعشق الفلسفة ويبدأ بدراستها ، يتصور أنها ستحل كل مشكلاته الفكرية ، ثم يتقدم فيها فيرى أنها لا تحل شيئاً منها! قلت له: وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) هل تحل المشكلات الفكرية للطالب؟   فتأمل وقال: نعم تحلها ، وهي التي تحلها )[32].

وعندما تحدث السيد الشهيد محمد باقر الصدر (رض) عن الفلسفة الاسلامية ونقضه للفلسفة الغربية بكتابه الشهير (فلسفتنا) فهو إنما استند في نقضها الى القضايا العقلية البديهية (التي يتفق عليها العقلاء من المتكلمين والفلاسفة) ولم يلتزم أي قاعدة فلسفية من قواعد الحكمة المتعالية، وفي خصوص الحركة الجوهرية فقد استشهد في فلسفتنا بملا صدرا وقوله بالحركة الجوهرية لا على سبيل صحتها بل على سبيل ان الماركسيين ليسوا هم اول من قال بالحركة الجوهرية بل سبقهم المسلمون اليها، فإن كانت حقاً ففي المسلمين من هم السابقون الى القول بها وإن كانت باطلة فهي ليست من صميم العقيدة الاسلامية وبطلانها لا يؤثر على العقيدة شيء بل يكشف عن بطلان الفكر الماركسي الذي يتبناها ايضاً كأحد اهم مرتكزاته الفكرية.

ومن الجدير بالذكر ان مفهوم الحركة الجوهرية قد تم تناوله من قبل اليونانيين القدماء وعنهم اخذ ملا صدرا هذا المفهوم، فقد كتب جون والبريدج John Walbridge: (كما علمنا من المصادر السيرية [المتعلقة بالسيرة] اليونانية والعربية أن أفلاطون تخلى عن الشعر واتبع الفيلسوف سقراط وبعد سقراط تابع أفلاطون دراسته مع قراطليس Cratylus وهو أحد أتباع هرقليطس Heraclitus –أحد الفلاسفة اليونانيون- وتعلم منهما شيئين مختلفين. فمن سقراط Socrates تعلَّم البحث عن حقيقة الأشياء أو الواقع الحقيقي للأشياء وخاصة الفضائل ورفض مناظرات السوفسطائيين السطحية. ومن هرقليطيس Heraclytus تعلم عن خاصة العالم المحسوس غير الدائم والسريع الزوال. ويُعتبر أفلاطون مصدراً لأهم مقولات هرقليطيس: "يقول هرقليطيس أنّ كل شيء يتحرك باستمرار أي في تغير مستمر وليس هناك من شيء ساكن أو ثابت. ويُشبه الكون بالنهرالمتدفق حيث لا يمكنك أن تطأ مرتين نفس سيل أو دفق الماء". وقد تعلم أفلاطون من الفيثاغوريين عن العالم العقلي أو ما وراء الحسي (النفسي). هذه العناصرالمتباينة لا يمكن أن تستند إلى بعضها أو تلتحم بسهولة لكن من مزايا النبوغ الأفلاطوني قدرته على توحيد هذه العناصر بطريقة لم تتوقف أبداً عن التأثير في الفلسفة حتى الآن. إنّ حركة الفلسفة الأفلاطونية الأساس كان التمييز بين الوجود المجرد والوجود الكائن أوالكوني. فالوجود معقول غير متغير وبالتالي يمكن إدراكه أو معرفته لكن الوجود الكائن أو الكوني في تغير متواصل وهكذا يمكن معرفته – التقريبية فقط- بمقتضى حقيقة كونه نسخة عن العالم المعقول للوجود. وبالتالي ما هو جميل أو عادل أو جيد فهو كذلك لأنه بطريقة ما يشبه أو يشارك الجمال عينه أو الجودة أو العدالة الموجودة في عالم الوجود وكل ما هو موجود في عالم الوجود يسمى مثال أوصورة الجمال أو الجودة أو العدالة)[33].

وكان ابراهيم بن سيّار النظّام (185-221)هـ وهو من المعتزلة واستاذ الجاحظ ، قد سبق ملا صدرا في التحدث عن الحركة الجوهرية، حيث "ذهب النظّام الى ان الاجسام متجددة آناً كالأعراض كما في شرح المواقف ... فقد تفوّه النظّام بالقول الحق أعني القول بحركة الجوهر لأنّ الاعراض هي المرتبة النازلة للجوهر فاذا كانت متجددة آناً فآناً كانت موضوعاتها متجددة أيضاً وهذه حجة من حجج إثبات الحركة في الجوهر"[34].

وكذلك فإنَّ ابو بكر الرازي (250-311)هـ أيضاً قد سبق ملا صدرا في التحدث عن الحركة الجوهرية حيث قال: (ان كل جسم يتمتع بحركة ذاتية، ووضع ذلك في رسالة اسماها "مقالة في ان للجسم تحريكاً من ذاته وأن الحركة مبدأ طبيعي له")[35].

وقال السيد محمد باقر الصدر (رض) عن وحدة الوجود: "لا شك في أن الاعتقاد بمرتبة من الثنائية التي توجب تعقل فكرة الخالق والمخلوق مقوم للإسلام، إذ بدون ذلك لا معنى لكلمة التوحيد . فالقول بوحدة الوجود إن كان بنحو يوجب عند القائل بها رفض تلك الثنائية فهو كفر، وأما إذا لم ير القائل تنافيا بين وحدة الوجود ومرتبة معقولة من الثنائية المذكورة فلا كفر في قوله، ولو فرض ثبوت التنافي واقعاً. وتوضيح الحال في ذلك: أن مفهوم الوجود المنتزع من الخارج ، تارة : يقال بأن منشأ انتزاعه نفس ما يقع موضوعا في القضية الحملية التي يكون مفهوم الوجود محمولا فيها ، وهذا معناه القول بأصالة الماهية . وأخرى : يقال بأن منشأ انتزاعه حقيقة وراء ذلك ، وتكون الماهية بدورها منتزعة عن تلك الحقيقة أيضا ، وهي سنخ حقيقة لو أمكن تصورها مباشرة لكان ذلك مساوقا للتصديق بوجودها وطارديتها للعدم ، وهذا قول بأصالة الوجود وعلى الأول لا إشكال في التكثر لتعدد الماهيات . وأما على الثاني فتارة : يقال إن نسبة مفهوم الوجود إلى تلك الحقيقة ، نسبة الكلي إلى الفرد بنحو تتكثر الأفراد ، أو نسبة العنوان إلى المعنون مع وحدته . فعلى الأول يكون مفهوم الوجود ذا مناشئ انتزاع متعددة بعدد أفراده . وعلى الثاني تثبت وحدة حقيقة الوجود . وعليه فتارة : يقال بأن هذه الحقيقة مختصة بالله تعالى ، وأن موجودية غيره بالانتساب إليه لا بوجدانه للحقيقة نفسها ، وهذا قول بوحدة الوجود وتعدد الموجد . وأخرى : يقال بأن تلك الحقيقة لا تختص بالواجب تعالى ، بل كل الموجودات ذاقت طعمها ، فهذا قول بوحدة الوجود والموجود . وعليه فتارة : يقال بفارق بين الخالق والمخلوق في صفع الوجود ، نظير الفارق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي في صقع الماهيات . وأخرى : يرفض هذا الفارق ويدعى أنه لا فرق بينهما إلا بالاعتبار واللحاظ ، لأن الحقيقة إن لوحظت مطلقة كانت هي الواجب ، وإن لوحظت مقيدة كانت هي الممكن . والاحتمال الأخير في تسلسل هذه التشقيقات هو الموجب للكفر ، دون الاحتمالات السابقة لتحفظها على المرتبة اللازمة من الثنائية"[36].

واعترف سيد كمال الحيدري ان السيد محمد باقر الصدر (رض) في كتابه (الاسس المنطقية للاستقراء) نبذ جملة من متبنيات مدرسة الحكمة المتعالية، فقال: (السيد الشهيد رحمة الله تعالى عليه في الأسس المنطقية رفع يده عن جملة من مباني الحكمة المتعالية)[37].

 

فتاوى السيدين اليزدي والخوئي (رضوان الله عليهما)  حول وحدة الوجود:

وحينما قال صاحب متن العروة الوثقى السيد كاظم الطباطبائي اليزدي (رضوان الله عليه) (1247- 1337)هـ، ما نصّه: (والقائلون بوحدة الوجود من الصّوفيّة إذا التزموا بأحكام الاسلام فالأقوى عدم نجاستهم إلاّ مع العلم بالتزامهم بلوازم مذاهبهم من المفاسد) ، وعلّق السيد ابو القاسم الخوئي (رضوان الله عليه) (1317- 1413)هـ على هذا النص بقوله: (القائل بوحدة الوجود إن أراد أن الوجود حقيقة واحدة ولا تعدد في حقيقته وإنه كما يطلق على الواجب كذلك يطلق على الممكن فهما موجودان وحقيقة الوجود فيهما واحدة والاختلاف إنما هو بحسب المرتبة لأن الوجود الواجبي في أعلى مراتب القوة والتمام ، والوجود الممكني في أنزل مراتب الضعف والنقصان وإن كان كلاهما موجوداً حقيقة وأحدهما خالق للآخر وموجد له. فهذا في الحقيقة قول بكثرة الوجود والموجود معاً . نعم، حقيقة الوجود واحدة فهو مما لا يستلزم الكفر والنجاسة بوجه بل هو مذهب أكثر الفلاسفة بل مما اعترض المسلمون وأهل الكتاب ومطابق لظواهر الآيات والأدعية فترى إنه «عليه السلام» يقول: أنت الخالق وأنا المخلوق وأنت الرب وأنا المربوب، و غير ذلك من التعابير الدالة على أن هناك موجودين متعددين أحدهما موجد وخالق للآخر ويعبر عن ذلك في الاصطلاح بالتوحيد العامي . وإن أراد من وحدة الوجود ما يقابل الأول وهو أن يقول بوحدة الوجود الموجود حقيقة وإنه ليس هناك في الحقيقة إلاّ موجود واحد ولكن له تطورات متكثرة واعتبارات مختلفة لأنه في الخالق خالق وفي المخلوق مخلوق كما إنه في السماء سماء وفي الأرض أرض وهكذا . وهذا هو الذي يقال له توحيد خاص الخاص وهذا القول نسبه صدر المتألهين إلى بعض الجهلة من المتصوفين ـ وحكي عن بعضهم إنه قال : ليس في جبتي سوى الله ـ وأنكر نسبته إلى أكابر الصوفية ورؤسائهم ، وإنكاره هذا هو الذي يساعده الاعتبار فإن العاقل كيف يصدر منه هذا الكلام وكيف يلتزم بوحدة الخالق ومخلوقه ويدعي اختلافهما بحسب الاعتبار ؟! وكيف كان فلا إشكال في أن الالتزام بذلك كفر صريح وزندقة ظاهرة لأنه إنكار للواجب والنبي «صلى الله عليه وآله وسلّم» حيث لا امتياز للخالق عن المخلوق حينئذ إلاّ بالاعتبار وكذا النبي «صلى الله عليه وآله وسلّم» وأبو جهل ـ مثلاً ـ متحدان في الحقيقة على هذا الأساس وإنما يختلفان بحسب الاعتبار . وأما إذا أراد القائل بوحدة الوجود أن الوجود واحد حقيقة ولا كثرة فيه من جهة وإنما الموجود متعدد ولكنه فرق بيّن موجودية الموجود وموجودية غيره من الماهيات الممكنة لأن إطلاق الموجود على الوجود من جهة إنه نفس مبدء الاشتقاق . وأمّا إطلاقه على الماهيات الممكنة فإنما هو من جهة كونها منتسبة إلى الموجود الحقيقي الذي هو الوجود لا من أجل إنها نفس مبدء الاشتقاق ولا من جهة قيام الوجود بها، حيث إن للمشتق اطلاقات : فقد يحمل على الذات من جهة قيام المبدء به، كما في زيد عالم أو ضارب لأنه بمعنى من قام به العلم أو الضرب .وأخرى : يحمل عليه لأنه نفس مبدء الاشتقاق، كما عرفته في الوجود والموجود .وثالثة : من جهة إضافته إلى المبدء نحو إضافة، وهذا كما في اللابن والتامر لضرورة عدم قيام اللبن والتمر ببايعهما إلاّ أن البايع لما كان مسنداً ومضافاً إليهما نحو إضافة ـ وهو كونه بايعاً لهما ـ صح إطلاق اللابن والتامر على بايع التمر واللبن ، وإطلاق الموجود على الماهيات الممكنة من هذا القبيل ، لأنه بمعنى إنها منتسبة ومضافة إلى الله سبحانه بإضافة يعبر عنها بالإضافة الاشراقية فالموجود بالوجود الانتسابي متعدد والموجود الاستقلالي الذي هو الوجود واحد . وهذا القول منسوب إلى أذواق المتألهين، فكأن القائل به بلغ أعلى مراتب التأله حيث الوجود بالواجب سبحانه ويسمى هذا توحيداً خاصياً . ولقد اختار ذلك الأكابر ممن عاصرناهم وأصر عليه غاية الإصرار مستشهداً بجملة وافرة من الآيات والأخبار حيث أنه تعالى قد أطلق عليه الموجود في بعض الأدعية .وهذا المدعى وإن كان أمراً باطلاً في نفسه لابتنائه على أصالة الماهية ـ على ما تحقق في محله ـ وهي فاسدة لأن الأصيل هو الوجود إلاّ أنه غير مستتبع لشيء من الكفر والنجاسة والفسق . بقي هناك احتمال آخر وهو: ما إذا أراد القائل بوحدة الوجود وحدة الوجود والموجود في عين كثرتهما فيلتزم بوحدة الوجود والموجود وإنه الواجب سبحانه إلاّ أن الكثرات ظهورات نوره وشئونات ذاته وكل منها نعت من نعوته ولمعة من لمعات صفاته ويسمى ذلك عند الاصطلاح بتوحيد أخص الخواص . وهذا هو الذي حققه صدر المتألهين ونسبه إلى الأولياء والعرفاء من عظماء أهل الكشف واليقين قائلاً : بأن الآن حصص الحق واضمحلت الكثرة الوهمية وارتفعت أغاليط الأوهام إلاّ أنه لم يظهر لنا ـ إلى الآن ـ حقيقة ما يريدونه من هذا الكلام . وكيف كان فالقائل بوحدة الوجود ـ بهذا المعنى الأخير ـ أيضاً غير محكوم بكفره ولا بنجاسته ما دام لم يلتزم بتوال فاسدة من إنكار الواجب أو الرسالة أو المعاد)[38].

 

السيد ابو القاسم الخوئي (رضوان الله عليه) ينسب ملا صدرا للقول بالتجسيم:

في (التنقيح في شرح العروة الوثقى) في تعليقه على قول صاحب المتن (وأمّا المجسِّمة) قال السيد ابو القاسم الموسوي الخوئي (رضوان الله عليه) (1317- 1413)هـ / (1899- 1992)م: (وهم على طائفتين : فانّ منهم من يدعي أن الله سبحانه جسم حقيقة كغيره من الأجسام وله يد ورجل إلاّ أنه خالق لغيره وموجد لسائر الأجسام ، فالقائل بهذا القول إن التزم بلازمه من الحدوث والحاجة إلى الحيّز والمكان ونفي القدمة ، فلا إشكال في الحكم بكفره ونجاسته لأنه إنكار لوجوده سبحانه حقيقة . وأما إذا لم يلتزم بذلك بل اعتقد بقدمه تعالى وأنكر الحاجة فلا دليل على كفره ونجاسته وإن كان اعتقاده هذا باطلاً ومما لا أساس له. ومنهم من يدّعي أنه تعالى جسم ولكن لا كسائر الأجسام كما ورد أنه شيء لا  كالأشياء فهو قديم غير محتاج، ومثل هذا الاعتقاد لا يستتبع الكفر والنجاسة وأمّا استلزامه الكفر من أجل أنه إنكار للضروري حيث إنّ عدم تجسّمه من الضروري فهو يبتني على الخلاف المتقدم من أن إنكار الضروري هل يستلزم الكفر مطلقاً أو أنه إنما يوجب الكفر فيما إذا كان المنكر عالماً بالحال ، بحيث كان إنكاره مستلزماً  لتكذيب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم). هذا ، والعجب من صدر المتألهين حيث ذهب إلى هذا القول في شرحه على الكافي وقال ما ملخّصه: إنّه لا مانع من التزام أنه سبحانه جسم إلهي، فانّ للجسم أقساماً فمنها: جسم مادي وهو كالأجسام الخارجية المشـتملة على المادّة لا محالة. ومنها: جسم مثالي وهو الصورة الحاصلة للانسان من الأجسام الخارجيـة وهي جسم لا مادّة لها. ومنها: جسم عقلي وهو الكلِّي المتحقِّق في الذهن وهو أيضاً مما لا مادّة له بل وعدم اشتماله عليها أظهر من سابقه. ومنها: جسم إلهي وهو فوق الأجسام بأقسامها وعدم حاجته إلى المادّة أظهر من عدم الحاجة إليها في الجسم العقلي، ومنها: غير ذلك من الأقسام، ولقد صرّح بأن المقسم لهذه الأقسام الأربعة هو الجسم الذي له أبعاد ثلاثة من العمق والطول والعرض. وليت شعري أن ما فيه هذه الأبعاد وكان عمقه غير طوله وهما غير عرضه كيف لا يشتمل على مادة ولا يكون متركباً حتى يكون هو الواجب سبحانه. نعم، عرفت أن الالتزام بهذه العقيدة الباطلة غير مستتبع لشيء من الكفر والنجاسة، كيف وأكثر المسلمين لقصور باعهم يعتقدون أنّ الله سبحانه جسم جالس على عرشه ومن ثمة يتوجهون نحوه توجه جسم إلى جسم مثله لا على نحو التوجه القلبي)[39].

 

الميرزا مهدي الأصفهاني (رضوان الله عليه) ومعارضته لإدخال الفلسفة والعرفان في العقيدة الدينية:

وهو مؤسس ما اصبح يُعرَف فيما بعد بالمدرسة التفكيكية ، في مدينة مشهد المقدسة. وقد كتب الشيخ حسن النمازي في مقدمته لكتاب والده الشيخ علي النمازي الشاهرودي وهو يتحدث عن استاذ والده اي الشيخ مهدي الاصفهاني (طاب ثراه) (1303- 1365)هـ : (وحين بلغ إلى خمس وثلاثين سنة سنه الشريف، نال أعلى مراتب الاجتهاد و أجازه العلامة النائيني وغيره أحسن الإجازات. ومما عبر به في إجازته المفصلة التي كتبها النائيني بخطه الشريف في شوال 1338 ه‍ المزينة بخطوط جمع من الأعاظم المراجع الكرام وتكون عندي قال: " العالم العامل والتقى الفاضل العلم العلام والمهذب الهمام ذو القريحة القويمة والسليقة المستقيمة والنظر الصائب والفكر الثاقب عماد العلماء والصفوة الفقهاء الورع التقى والعدل الزكي جناب الآقا ميرزا مهدى الأصفهاني أدام الله تعالى تأييده وبلغه الأماني - إلى أن قال - وحصل له قوة الاستنباط وبلغ رتبة الاجتهاد وجاز له العمل بما يستنبطه من الأحكام " - الخ وكان مشتغلا بتعلم الفلسفة المتعارفة وبلغ أعلى مراتبها. قال: لم يطمئن قلبي بنيل الحقائق، ولم تسكن نفسي بدرك الدقائق، فعطفت وجه قلبي إلى مطالب أهل العرفان. فذهبت إلى أستاد العرفاء والسالكين السيد أحمد المعروف بالكربلائي في كربلاء وتلمذت عنده حتى نلت معرفة النفس وأعطاني ورقة أمضاها وذكر اسمى مع جماعة بأنهم وصلوا إلى معرفة النفس وتخليتها من البدن. ومع ذلك لم تسكن نفسي إذ رأيت هذه الحقائق والدقائق التي سموها بذلك لا توافق ظواهر الكتاب وبيان العترة ولا بد من التأويل والتوجيه. ووجدت كلتا الطائفتين كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، فطويت عنهما كشحا وتوجهت وتوسلت مجدا مكدا إلى مسجد السهلة في غير أوانه باكيا متضرعا متخشعا إلى صاحب العصر والزمان عليه السلام، فبان لي الحق وظهر لي امر الله ببركة مولانا صاحب الزمان صلوات الله عليه ووقع نظري في ورقة مكتوبة بخط جلى: " طلب المعارف من غيرنا - أو طلب الهداية من غيرنا (الشك منى) مساوق لإنكارنا " وعلى ظهرها مكتوب: " أقامني الله وأنا حجة بن الحسن.

قال: فتبرأت من الفلسفة والعرفان وألقيت ما كتبت منهما في الشط ووجهت وجهي بكله إلى كتاب الكريم وآثار العترة الطاهرة فوجدت العلم كله في كتاب الله العزيز وأخبار أهل البيت الرسالة الذين جعلهم الله خزانا لعلمه و تراجمة لوحيه ورغب وأكد الرسول صلى الله عليه وآله بالتمسك بهما وضمن الهداية للتمسك بهما. فاخترت الفحص عن أخبار أئمة الهدى والبحث عن آثار سادات الورى فأعطيت النظر فيها حقه وأوفيت التدبر فيها حظه، فلعمري وجدتها سفينة نجاة مشحونة بذخائر السعادات وألفيتها فلكا مزينا بالنيرات المنجية من ظلمات الجهالات، ورأيت سبلها لائحة وطرقها واضحة وأعلام الهداية والفلاح على مسالكها مرفوعة، ووصلت في سلوك شوارعها إلى رياض نضرة وحدائق خضرة مزينة بأزهار كل علم وثمار كل حكمة إلهية الموحاة إلى النواميس الإلهية فلم أعثر على حكمة الا وفيها صفوها ولم أظفر بحقيقة إلا وفيها أصلها. والحمد لله هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

ثم خرج الأستاذ الأعظم من العراق عازما إلى إيران فاختار مجاورة الإمام الرؤوف علي بن موسى الرضا عليه السلام وشرع في التعليم والتدريس مطالب الفقه والأصول ومعارف القرآن في مدة قريبة من ثلاثين سنة وقوم الأفاضل و الأكارم بأحسن تقويم وأفاض مطالب الأصول في ثلاث دورات: الأول بنحو المفصل والمبسوط على المرسوم، والثاني في إثبات ما يختاره في ذلك بالأدلة التامة، والثالث مهمات مباحث الأصول التي يتوقف عليها الاستنباط.

وكذلك أجاد فيما أفاد من الفقه ومعارف القرآن وكان ساعيا مجدا في نشر العلوم والمعارف بحيث لم يكن له تعطيل في تمام السنة إلا أياما قليلة قليلة لا تبلغ عشرة أياما كل وقت على حسب ما يقتضيه ويرتضيه.

فاستفاد من محضره الشريف الأفاضل والأماثل حتى بلغ أكثرهم رتبة الاجتهاد في الفقه والأصول والمعارف الإلهية فبلغوا من ذلك أعلاها ووصلوا إلى أسناها. والحمد لله الذي وفقني للتشرف بشرف محضره الشريف والاستفادة من مقامه الكريم مدة تقرب من خمس عشرة سنة. والحمد لله رب العالمين كما هو أهله ولا إله غيره.

وانتقل أعلى الله مقامه من هذه الدنيا الدنية إلى دار الكرامة والرحمة في صباح يوم الخميس التاسع عشر من ذي الحجة الحرام في سنة 1365)[40].

ومن الجدير بالذكر ان العلماء الذين كانت لديهم نفس الرؤى التفكيكية بين العقيدة من جهة وبين الفلسفة والعرفان من جهة ثانية ، منذ عصر الميرزا مهدي الاصفهاني (طاب ثراه) والى عصرنا الحالي ، ابرزهم[41]:

1.     السيد موسى الزرآبادي القزويني ، توفي  1353هـ.

2.     الميرزا علي أكبر النوقاني (1300 ــ 1370)هـ.

3.     الشيخ غلام حسين المحامي البادكوبه، توفي 1954م

4.     الشيخ علي أكبر إلهيان التنكابني، توفي 1380هـ.

5.     الشيخ مجتبى القزويني الخراساني ، توفي 1386هـ.

6.     الشيخ هاشم القزويني الخراساني، توفي 1960م

7.     السيد أبو الحسن حافظيان، توفي 1981م

8.     الميرزا جواد آغا الطهراني، توفي 1989م

9.     الشيخ محمد باقر الملكي، توفي 1419هـ.

10.   الشيخ علي الاحمدي الميانجي، توفي 2000م.

11.  الشيخ محمد باقر علم الهدى، توفي 2010م.

12.   سيد جعفر سيّدان ، معاصر.

13.  الشيخ محمد رضا الحكيمي ، معاصر.

 

كلام الشيخ علي النمازي الشاهرودي في ذم الفلسفة:

قال الشيخ علي النمازي الشاهرودي (1333- 1402)هـ ، ما نصّه: (فلسف: ذم الفلسفة قال مولانا الصادق صلوات الله عليه في رواية توحيد المفضل: فتبا وتعسا وخيبة لمنتحلي الفلسفة - الخ. وقال مولانا الحسن العسكري صلوات لله عليه لأبي هاشم الجعفري في رواية شريفة: علماؤهم شرار خلق الله على وجه الأرض، لأنهم يميلون إلى الفلسفة والتصوف. وأيم الله إنهم من أهل العدول والتحرف - الخ. وتمام الحديث في كتابنا " تاريخ فلسفه وتصوف ". وحيث أنه جاء محمد رسول الله وأوصياؤه المرضيون صلوات الله عليهم لإبطال الفلسفة اليونانية والحكمة البشرية كما نسب ذلك إلى قمر سماء الفقاهة صاحب الجواهر قال: ما بعث رسول الله إلا لإبطال الفلسفة، كما سيأتي. بين القرآن والعترة الطاهرة خليفتا رسول الله (صلى الله عليه وآله): المعارف الحقة الإلهية في الخطب والأدعية والأحاديث الواردة عن النبي والعترة، حفظها أهلها وعلموها طالبها، واقتبسوها من أهلها، وبينوها في كتبهم، وقاموا برد الفلسفة البشرية، واقتبسوا الحكمة الإلهية من بيوت النبوة والرسالة، ومعدن العلوم الإلهية الربانية. الربانية. فمن أصحاب الأئمة صلوات الله عليهم الذين اقتبسوا العلوم الإلهية من مواليهم، وقاموا تبعا لمواليهم في الرد على الفلسفة البشرية:

هشام بن الحكم: الثقة الجليل يطعن على الفلاسفة، كما نقله الكشي في كتابهم، وذكره في البحار، وهو من أجلاء أصحاب الصادق والكاظم (عليهما السلام). ولهشام هذا كتب كثيرة. منها: كتاب الدلالات (الدلالة - جش) على حدوث الأجسام، وكتاب الرد على الزنادقة. وكتاب الرد على أصحاب الطبائع، وكتاب الرد على أرسطا طاليس، كما ذكرها النجاشي في رجاله والشيخ في كتاب فهرسته وغيرهما.

ومنهم الفضل بن شاذان النيشابوري: الثقة الجليل والفقيه المتكلم النبيل، صنف مائة وثمانين كتابا. منها: كتاب الرد على الفلاسفة، كما نقله النجاشي في رجاله. ونحوه الشيخ في ست ص 150. وهو من أجلاء أصحاب الرضا والجواد والهادي صلوات الله عليهم. توفي سنة 260. ومنهم علي بن أحمد الكوفي المتوفى سنة 352، له كتب. منها: كتاب الرد على أرسطا طاليس، وكتاب الرد على من يقول أن المعرفة من قبل الموجود، كما قاله النجاشي. ومنهم علي بن محمد بن العباس: ذكر النجاشي كتبه وعد منها: كتاب الرد على أهل المنطق، وكتاب الرد على الفلاسفة، وكتاب الرد على العروض. ومنهم هلال بن إبراهيم: ثقة، وله كتاب الرد على من رد آثار الرسول واعتمد نتائج العقول، كما ذكره النجاشي. ومنهم الحسن بن موسى النوبختي: قال في الروضات: هو صاحب الأبحاث الواردة الغفيرة على حكماء اليونان. ومنهم ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس فصل 52، كما في السفينة. ثم ذكر كلماته وسيأتي قريبا. ومنهم الصدوق في مفتتح كمال الدين حيث طعن عليهم. ومنهم قطب الدين الراوندي: له كتاب تهافت الفلاسفة، كما نقله فهرست منتجب الدين. ومنهم الشيخ المفيد: له كتب. منها: كتاب جوابات الفيلسوف في الاتحاد، وكتاب الرد على أصحاب الحلاج. ومنهم حمزة بن علي بن زهرة الحسيني: له كتاب في نقض شبه الفلاسفة، كما نقله العلامة المامقاني عن العلامة الشيخ الحر العاملي.

ومنهم المولى محمد طاهر القمي العلامة المحقق: له كتب. منها: كتاب جليل القدر والمرتبة في الرد على حكمة الفلاسفة وغيرها من الكتب، ورسالة في الرد على الصوفية، كما ذكره في جامع الرواة. ومنهم الحسن بن محمد بن عبد الله الطيبي: كان شديد الرد على الفلاسفة مظهرا فضائحهم مع استيلائهم حينئذ، كما ذكره في الروضات. ومنهم العلامة الكامل والعالم العامل جامع المعقول والمنقول المولى محمد باقر بن محمد باقر الهزار جريبي الغروي في إجازته المبسوطة للعلامة بحر العلوم قال: واوصيه بالكد في تحصيل المقامات العالية الاخروية، سيما الجد في نشر أحاديث أهل بيت النبوة والعصمة صلوات الله وسلامه عليهم، ورفض العلائق الدنية الدنيوية، وإياه وصرف نقد العمر العزيز في العلوم المموهة الفلسفية، فإنها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء - الخ. ومنهم - كما قال العلامة النوري في مستدرك الوسائل بعد نقل ذلك من الاجازة الموجودة عنده - بحر العلوم: له كلام في التحذر عنهم وعن طائفة اخرى تعد من اخوتهم، قال في إجازته للعالم العامل السيد عبد الكريم سبط المحدث الجزائري بعد كلام له في اعتناء السلف بالأحاديث ورعايتها دراية ورواية وحفظا ما لفظه. فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات وجانبوا العلم والعلماء وباينوا الفضل والفضلاء - إلى أن قال: - فهم بين من اتخذ العلم ظهريا، والعلماء سخريا، واولئك هم العوام - إلى أن قال: - وبين من سمى جهالة اكتسبها من رؤساء الكفر والضلالة، المنكرين للنبوة والرسالة حكمة وعلما، واتخذ من سبقه إليها أئمة وقادة، يقتفي آثارهم ويتبع منارهم، يدخل فيها، دخلوا وإن خالف نص الكتاب، ويخرج عما خرجوا وإن كان ذلك هو الحق الصواب، فهذا من أعداء الدين والسعاة في هدم شريعة سيد المرسلين - الخ. ومنهم العلامة أبو محمد الخوارزمي، كما في معجم البلدان ، فإن له كلاما في ذم الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل - إلى أن قال بعد ذلك: - وليس ذلك إلا لإعراضه عن نور الشريعة، واشتغاله بظلمات الفلسفة، وقد كان بيننا محاورات ومفاوضات، فكان يبالغ في نصرة مذاهب الفلاسفة والذب عنهم، وقد حضرت عدة مجالس من وعظه، فلم يكن فيها لفظ " قال الله " ولا " قال رسول الله " ولا جواب من المسائل الشرعية، فراجع كتاب الغدير. ومنهم العلامة الكامل ركن الفقهاء صاحب الجواهر في الفقه كما في كتاب السلسبيل للعلامة الجليل الحاج ميرزا أبو الحسن الإصطهباناتي قال: سمعت عن بعض تلامذة صاحب الجواهر أنه في مجلس درسه جاء بعض أهل العلم وفي يده كتاب من الفلسفة، فسأل عنه عما في يده، فلما رآه صاحب الجواهر قال: والله ما جاء محمد من عند الله إلا لإبطال هذه الخرافات والمزخرفات. إنتهى. ومنهم العلامة المجلسي في مواضع كثيرة من البحار، كما سيأتي. قال في أول المرآة بعد ذكر الآراء المتشتة والأهواء المختلفة: فمنهم من سمى جهالة أخذها من حثالة (بالضم: الردي من كل شئ) من أهل الكفر والضلالة، المنكرين لشرائع النبوة وقواعد الرسالة حكمة، واتخذ من سبقه في تلك الحيرة والعمى أئمة، يوالي من والاهم ويعادي من عاداهم، ويفدي بنفسه من اقتفى آثارهم، ويبذل نفسه في إذلال من أنكر آراءهم وأفكارهم - الخ.

ومنهم الفيض الكاشاني صاحب الوافي وغيره في كتاب قرة العين المطبوعة في سنة 1378 قال: اعلموا إخواني - هداكم الله كما هداني - إني ما اهتديت إلا بنور الثقلين وما اقتديت إلا بالأئمة المصطفين، وبرئت إلى الله مما سوى هدى الله، فإن الهدى هدى الله).

الى ان يقول: (قال العلامة الجليل المرجع الديني السيد أبو الحسن الاصفهاني في كتاب الوسيلة في كتاب الوقف: لو وقف على العلماء انصرف إلى علماء الشريعة فلا يشمل غيرهم كعلماء الطب والنجوم والحكمة. يظهر منه أن في نظره أن علماء الحكمة كعلماء النجوم ليسوا بعلماء الشريعة، وكتبهم ليست كتب الشريعة المقدسة. ومنهم العلامة الجليل الحاج شيخ مجتبى القزويني في كتابه بيان الفرقان خصوصا في المجلد الرابع منه في الخاتمة نقل كلمات العلماء في ذم الفلاسفة والعرفاء المتصوفة والكتب التي صنفت في ردهم وذمهم، فراجع إليه. ومنهم الطبرسي في تفسير سورة الفيل، كما تقدم كلامه في " طبع ". ومنهم العلامة الخوئي المرجع الديني في مقدمته على تفسير القرآن المسمى بالبيان الطبعة الثانية ، فراجع إليه وإلى كتاب " خاطرات وزندگانى آقاى حكيم ". إعلامية آية الله الخوئي، فرمودند: حزب توده مثل عقيده فلسفه كه ضد اصول اسلام است ميباشد. پس اين عقيده كفر وشرك است. ودر كتاب تاريخ فلسفه وتصوف كيفيت ورود علم فلسفه را در اسلام نوشتم. وفي البحار ذم التصوف والفلسفة وقال: إن من سلك غير الآل ألحد، وتزندق من بغير طريقهم تعبد - الخ. وفي البحار عن ابن أبي الحديد في تفصيله فضائل مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) - إلى أن قال: - وما أقول في رجل يحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة، وتعظمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملة - الخ. والروايات في ذمهم أكثر من أن تحصى، ذكرنا جملة وافرة منها في كتابنا "تاريخ فلسفة وتصوف")[42].

 

كلام السيد المرعشي في ذم التصوف:

قال السيد شهاب الدين ابو المعالي محمد حسين المرعشي النجفي (1315- 1411)هـ  فى تعليقته على احقاق الحق للشيخ نور الله التستري: (وعندي أن مصيبة الصوفية على الإسلام من أعظم المصائب, تهدمت بها أركانه وانثلم بنيانه وظهر لي بعد الفحص الأكيد والتجول في مضامير كلماتهم والوقوف على ما في خبايا مطالبهم والعثور على مخبياتهم بعد الاجتماع برؤساء فرقهم أن الداء سرى إلى الدين من رهبة النصارى فتلقاه جمع من العامة كالحسن البصري والشبلي ومعروف وطاووس والزهري وجنيد ونحوهم ثم سرى منهم إلى الشيعة حتى رقى شأنهم وعلت راياتهم بحيث ما ابقوا حجراً على حجر من أساس الدين , أولوا نصوص الكتاب والسنة وخالفوا الأحكام الفطرية العقلية والتزموا بوحدة الوجود , بل الموجود وأخذ الوجهة في العبادة والمداومة على الأوراد المشحونة بالكفر والأباطيل التي لفقتها رؤساؤهم والتزامهم بما يسمونه بالذكر الخفي القلبي شارعاً من يمين القلب خاتماً بيساره معبراً عنه بالسفر من الحق إلى الخلق تارة, والتنزّل من القوس الصعودي إلى النزولي أخرى وبالعكس معبراً عنه بالسفر من الخلق إلى الحق والعروج من القوس النزولي إلى الصعودي أخرى فيالله من هذه الطامات ... ورأيت بعض من كان يدعى الفضل منهم , يجعل بضاعة ترويج مسلكه أمثال ما يعزى إليهم (عليهم السلام)"لنا مع الله حالات فيها هو نحن ونحن هو"وما درى المسكين في العلم والتتبع والتثبت والضبط أن كتاب مصباح الشريعة وما يشبهه من الكتب المودعة فيها أمثال هذه المناكير مما لفقتها أيادي المتصوفة في الأعصار السابقة وأبقتها لنا تراثاً...

ثم أن شيوع التصوف وبناء الخانقاهات كان في القرن الرابع حيث أن بعض المرشدين من أهل ذلك القرن لما رأوا تفنن المتكلمين في العقائد فاقتبسوا من فلسفة (فيثاغورس) وتابعيه في الإلهيات قواعد وانتزعوا من لاهوتيات أهل الكتاب والوثنيين جملاً وألبسوها لباساً إسلاميا فجعلوها علماً مخصوصاً ميزوه باسم علم التصوف أو الحقيقة أو الباطن أو الفقر أو الفناء أو الكشف والشهود.وألفوا وصنفوا في ذلك كتباً ورسائل وكان الأمر كذلك إلى أن حل القرن الخامس وما يليه من القرون,فقام بعض الدهاة في التصوف فرأوا مجالاً رحباً وسيعاً لأن يحوزوا بين الجهال مقاماً شامخاً كمقام النبوة , بل الإلوهية باسم الولاية والغوثية والقطبية بدعوى التصرف في الملكوت بالقوة القدسية,فكيف بالناسوت, فوسّعوا فلسفة التصوف بمقالات مبنية على مزخرف التأويلات والكشف الخيالي والأحلام والأوهام فألفوا الكتب المتظافرة الكثيرة ككتاب التعرف والدلالة والفصوص وشروحه والنفحات والرشحات والمكاشفات والإنسان الكامل والعوارف والمعارف والتأويلات ونحوها من الزبر والاسفار المحشوة بحكايات مكذوبة وقضايا لا مفهوم لها البتة... فلما راج متاعهم وذاع ذكرهم وراق سوقهم ,تشبعوا فرقاً وأغفلوا العوام والسفلة بالحديث الموضوع المفترى :"الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق" وجعل كل فرقة منهم لتمييزها عن غيرها علائم ومميزات بعد اشتراك الجميع في فتل الشوارب وأخذ الوجهة والتجمع في حلقات الأذكار عاملهم الله وجزاهم بما فعلوا في الاسلام. وأعتذر من إخواني الناظرين عن إطالة الكلام حيث إنها نفثة مصدور وتنفس صعداء و شقشقة هدرت غصص وآلام وأحزان بدرت، عصمنا الله وإياكم من تسويلات نسجة العرفان وحيكة الفلسفة والتصوف وجعلنا وإياكم ممن أناخ المطية بأبواب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعرف سواهم آمين آمين)[43].

 

كلام السيد موسى الصدر عن اختراق التصوف للتشيّع:

قال السيد موسى الصدر في مقدمته لكتاب المستشرق هنري كوربان الموسوم (تاريخ الفلسفة الاسلامية)، ما نصه تحت عنوان فرعي (التصوّف والتشيع)، ما نصه:

"الحديث عن التشيّع والتصوّف يبدو غريباً جداً، حيث أنّ كلمات فقهاء الشيعة ومحدّثيهم ومتكلميهم وحتى فلاسفتهم مليئة بنفي أي شبه.

إنّ التصوّف مدرسة مستقلة عالمية تسربت الى الشيعة بعدما غزت العالم الإسلامي كلّه وبعدما دخلت في عقائد المسيحيين بصورة واضحة، حتى أنّ التصوّف الآن يُعدّ مفتاحاً لانفتاح جميع الأديان والمذاهب بعضها على بعض، ولا يختص بالشيعة تبعاً ولا سنداً.

فثنائية الشريعة والحقيقة غير واردة عند المسلمين بمختلف فرَقهم المعروفة، فالشريعة في الإسلام هي الحقيقة المطلقة الإلهية، و"من يتبع غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه"، أما اتصال كبار الصوفية في سلسلة أقطابهم الى بعض أئمة الشيعة، واعتبار البعض الآخر كالإمام محمد التقي الجواد قادة الشريعة دون أئمة الحقيقة وأقطابها، فلا يحمل مسؤولية هذه الآراء إلا القائلون بها.

وما ثنائية الشريعة والحقيقة إلا نتيجة لثنائية الجسم والروح التي هي قاعدة أساسية للتصوّف، ومن نتائجها أنّ تضعيف الجسم والرياضات الجسدية هي أسباب لتقوية الروح وتكاملها، أما الإسلام فيكرّم الجسد ويعتبره نعمة من الله، ويمنع الرهبنة، ويعتمد على اتحاد الجسد والروح وتفاعلهما ومقارنة الدنيا والآخرة.

فالله يُعبد في محراب الجسد، وفي محلات السوق، وفي مكاتب الإدارة، وفي حقول المزرعة، وبالجهاد في سبيل الله، وبالمحافظة على سلامة البلاد، وبالكد للعيال، وبحُسن التبعّل للزوجية، وبتربية الأولاد. ويُعتبر من يُقتل دفاعاً عن ماله شهيد كالمدافع عن دينه.

والحاجات الجسدية والرغبات الطبيعية آثار نعمة الله ومن لطائف خلق الله، تكرَّم بالصيانة عن الوقوع في المحرّم، وتقدَّس بالشكر على النعمة، والآداب الإسلامية تأمر باقتران الأكل والشرب والتمتّع الجسدي بالشكر لله، وتُعدّ تعاليم الزواج والتجارة والزراعة عبادات عظيمة في الإسلام.

إنّ هذه الأحكام والآداب لا تنطبق على التصوّف الذي ينبع من معارضة الروح للجسم ويتكامل بالمجاهدة ومحاربة النفس وبالامتناع عن رغبات الجسد مهما أمكن"[44].

 

كلام سماحة السيد السيستاني (دام ظلّه الوارف) عن الفلسفة والعرفان:

ينقل عن سماحة السيد السيستاني (دام ظلّه الوارف) انه قال: لما كنت في الثامن عشر من العمر انهيت دراسة الفلسفة بفهم دقيق لمفاهيمها المعقدة حتى اصبت بعض الاحيان بشيء من العُجب والغرور, وكنت لذلك معجبا بالفلاسفة ومشدوداً الى افكارهم , ومع هذا حضرت في حوزة مشهد المقدسة دروس آية الله العظمى الشيخ الحاج ميرزا مهدي الاصفهاني (قدس سره) وكان ناقداُ للفلسفة وشديداُ على الفلاسفة , ولازال صوته يدوي في اذني حيث كان يخطب فينا وهو يهاجم أنصار علم الفلسفة قائلاً "(( هل انكم تريدون صنع مذهب في وجه مذهب أهل البيت من انتم وما شأنكم ,ارتدعوا ,عودوا الى رشدكم, دعوا هذه الفلسفة الممتزجه بالاراء الغريبة عن منهج الائمة الطاهرين)). ولكن رغم ذلك لم أُناقشه بإساءة ادب فأستنصر لفلاسفة كنت اؤيدهم واستمر حضوري لدروسه حتى اقنعني تدريجياً بإعادة النظر في المطلق لعلم الفلسفة وحبي المبالغ فيه للفلاسفة , فصرت محايداُ في الامر لا مؤيداُ ولا مندداُ , وهناك اكتشفت فائدة التواضع والأدب وضرر العُجب والغرور[45].

طبعاً هذا الموقف من سماحته (دام ظله الوارف) يخص عموم الفلسفة ، غير أنّه ينقل عنه انه لم يكن مؤيداً لمدرسة الحكمة المتعالية وموقفه سلبي من ابن عربي. وقد وقد وُجّه السؤال التالي الى سماحته (دام ظله الوارف) باللغة الفارسية: {اتوجه به مطالب منسوب به حضرتعالی در بعضی از سايتها مبنی بر تأييد (عرفان صاحب فصوصی) تقاضا می‌شود نظر شريف را در این رابطه اعلام فرمائيد. جواب : اين‌جانب در ارتباط با معارف اعتقادى به روشاكابر علماى اماميه (قدس الله اسرارهم) كه مطابق با آيات قرآن مجيد و روايات اهلبيت عصمت و طهارت (عليهم السلام) مى‌باشد معتقد بوده و روش فوق الذكر را تأييد نمى‌نمايم. علي الحسيني السيستاني. 8 محرم الحرام 1433هـ}. وترجمته: {السؤال: نظراً الی المطالب المنسوبة الی حضرتکم فی بعض المواقع التی تؤیدالعرفان المنسوب لصاحب الفصوص، نطلب ان تتفضلوا برایکم بهذا الخصوص. الجواب: انا بخصوص المعارف الاعتقادیة علی منهج اکابر علماء الامامیة قدس الله اسرارهم الذي یکون مطابقا لآیات القرآن الکریم وروایات اهل بیت العصمة والطهارة علیهم السلام ولا اؤید المنهج المذكور اعلاه. علي الحسيني السيستاني. 8 محرم الحرام 1433هـ}.

 

 



[1] تذكرة الفقهاء / العلامة الحلي (رض) - ج9 ص41.

[2] جامع الاسرار ومنبع الانوار / سيد حيدر الآملي - ص482.

[3] رسالة قواعد العقائد / الشيخ المحقق نصير الدين الطوسي ت672هـ – ص67 و68.

[4] فلاسفة الشيعة / الشيخ عبد الله نعمة – ص38 و39.

[5] الرؤية الفلسفية / الشيخ ماجد الكاظمي - ص129.

[6]  عقائد الامامية / الشيخ محمد رضا المظفر (مصدر سابق) – ص52.

[7] مصباح الاصول / تقريرات بحث آية الله العظمى السيد ابو القاسم الموسوي الخوئي (رض) / السيد محمد سرور الواعظ الحسيني البهسودي / مطبعة الشريعة في قم المقدسة / الطبعة الاولى 1422هـ -  ج1 / القسم 1 ص 281-283.

[8] التوحيد / الشيخ الصدوق (رض) / باب المشيئة والارادة - ص338.

[9]  مواهب الرحمن في تفسير القرآن / السيد عبد الاعلى السبزواري (رض) / منشورات دار التفسير في قم المقدسة / الطبعة الخامسة ، - ج1 ص276.

[10]  الانوار الالهية في الممسائل العقائدية / ميرزا جواد التبريزي (رض) / دار الصديقة الشهيدة سلام الله عليها / الطبعة الرابعة ، 1425هـ - ص245.

[11] محي الدين بن عربي / الدكتور محسن جهانگيري – ص347.

[12] دروس في التوحيد / الشيخ علي حمود العبادي / تقريرات ابحاث سيد كمال الحيدري – ص220.

[13]  حديث الطلب والارادة / محمد المحمدي الجيلاني - ص18 وما بعدها.

[14] دروس في التوحيد / الشيخ علي حمود العبادي / تقريرات ابحاث سيد كمال الحيدري – ص220.

[15] شرح المشاعر / الشيخ احمد الاحسائي – ج1 كلمة التحقيق ص9 نقلاً عن شرح العرشية.

[16] التوحيد / تقريراً لابحاث السيد كمال الحيدري بقلم جواد علي كسار – ج1 ص229 و230.

[17] التوحيد / تقريراً لابحاث السيد كمال الحيدري بقلم جواد علي كسار – ج1 ص231.

[18] المصدر السابق – ج1 ص229 و232.

[19] المصدر السابق – ج1 ص229 و232.

[20] المصدر السابق – ج1 ص229 و232.

[21] بحار الانوار / العلامة المجلسي (رض) / تحقيق محمد باقر البهبودي / دار إحياء التراث العربي في بيروت / الطبعة الثانية 1983م – ج40 ص173.

[22] الدرر النجفية في الملتقطات اليوسفية / الشيخ يوسف البحراني – ج2 ص228.

[23] البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة / الشيخ محمد جعفر الاسترآبادي المعروف بشريعتمدار - ج1 ص480.

[24] مستدرك سفينة البحار / الشيخ علي النمازي الشاهرودي – ج8 ص302.

[25] فرائد الاصول / الشيخ الانصاري (رض) ت1281هـ - ج1 ص64.

[26] خاتمة مستدرك الوسائل / ميرزا حسين النوري الطبرسي - ج2 ص239.

[27] سياحة في الشرق / السيّد النجفي القوچاني - ص342.

[28]  من حوار مع الشيخ حيدر الوكيل بتاريخ 28 / 2 / 2016م.

[29] مستدرك سفينة البحار / الشيخ علي النمازي الشاهرودي - ج8 ص298 وما بعدها.

[30] مقال بعنوان (إعادة النصاب، قراءة نقديّة لمقالة – العقل والدين بين المحدّث والحكيم) بقلم الشيخ علي ملكي الميانجي ، ترجمة محمد عبد الرزاق ، منشور في موقع نصوص معاصرة الالكتروني بتاريخ 16 اغسطس 2014م. وأيضاً المقال منشور في مجلة نصوص معاصرة ، العدد 7.

[31] مستمسك العروة / السيد محسن الحكيم (رض) - ج 1  ص391.

[32] الى طالب العلم / الشيخ علي كوراني – ص114.

[33]  مقال بعنوان (خلفية اعتقاد الملا صدرا بالصور الأفلاطونية) بقلم جون والبريدج John Walbridge ، منشور في موقع معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية.

[34]  كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد / العلامة الحلّي (رض) / تعليق الشيخ حسن حسن زاده آملي – هامش التعليقات ص258.

[35] فلاسفة الشيعة / الشيخ عبد الله نعمة – ص402.

[36] شرح العروة الوثقى / السيد محمد باقر الصدر (رض) - ج 3 - شرح ص 313 و314.

[37]  بحث (تعارض الأدلة (224) ) في 11 رجب 1435هـ / منشور في الموقع الرسمي الالكتروني لمكتب سيد كمال الحيدري.

[38] التنقيح في شرح العروة الوثقى / تقرير بحث السيد الخوئي (رض) للشيخ علي الغروي (رض) - ج3 ص(74-78).

[39] المصدر السابق - ج3 ص70-72.

[40] مستدركات علم رجال الحديث / الشيخ علي النمازي الشاهرودي - ج1 ترجمة المؤلف ص7.

[41] الاسماء التسعة الاولى لعلماء المدرسة التفكيكية وردت في مقال بعنوان (رجال المدرسة التفكيكية رصد أبرز الشخصيات التفكيكيّة في القرن الرابع عشر الهجري) للشيخ محمد رضا الحكيمي ، القسم الاول: ترجمة حيدر حب الله ، منشور في موقع مجلة نصوص معاصرة الاكرتوني ، بتاريخ 4 مايو 2014م.

والقسم الثاني: ترجمة قاسم الكعبي ، منشور في الموقع نفسه بتاريخ 21 مايو 2014م.

[42] مستدرك سفينة البحار / الشيخ علي النمازي الشاهرودي - ج8 ص298 وما بعدها.

[43] شرح احقاق الحق / الشيخ نور الله التستري / تعليقات السيد شهاب الدين النجفي المرعشي – ج1 التعليق في هامش ص183.

[44] تاريخ الفلسفة الاسلامية/ هنري كوربان / مقدمة سيد موسى الصدر – ص24.

[45] قصص وخواطر / الشيخ عبد العظيم المهتدي البحراني – ص419.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لوازم الغلو في التفسير بالرأي لقوله تعالى: ((فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ))